19 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْآمُلِيُّ، ثنا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ، ثنا عَمْرُو بْنُ طَارِقٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -[51]-: «الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنِ اتَّقَى اللَّهَ فِيهَا وَأَصْلَحَ، وَإِلَّا فَهُوَ كَالْآكِلِ وَلَا يَشْبَعُ، وَبَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ كَبُعْدِ الْكَوْكَبَيْنِ، أَحَدُهُمَا يَطْلُعُ فِي الْمَشْرِقِ، وَالْآخَرُ يَغِيبُ فِي الْمَغْرِبِ» قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: سَأَلْتُ بَعْضَ شُيُوخِنَا عَنْ قَوْلِهِ: «الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ» ، عَلَى مَا يَقَعُ هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ؟ فَقَالَ: مَعْنَاهُ إِنَّ مَا عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ مَتَاعِهَا يَحْسُنُ فِي عُيُونِ أَهْلِهَا، وَيَحْلُو فِي صُدُورِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ، ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] . وَأَنْشَدَ:

[البحر الطويل]

نَحْنُ بَنُو الدُّنْيَا خُلِقْنَا لِغَيْرِهَا ... وَمَا نَحْنُ فِيهِ فَهْوَ شَيْءٌ مُحَبَّبُ

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهُوَ عِنْدِي فِي نَعْتِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّ الدُّنْيَا مَرْتَعٌ حُلْوٌ خَضِرٌ يَرْتَعُ أَبْنَاؤُهَا فِيهَا، وَيُعْجَبُونَ بِحُسْنِهَا، وَيَسْتَحْلُونَ الْحَيَاةَ فِيهَا، كَمَا تُعْجَبُ الْأَنْعَامُ بِخَضِرِ الرَّبِيعِ وَمَا حَلَا مِنْ نَبَاتِهِ وَبَقْلِهِ، وَأُلْحِقَتِ الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ لِأَنَّهُمَا جُعِلَتَا نَعْتَيْنِ لِلدُّنْيَا، فَجَرَتَا عَلَى ظَاهِرِ الْكَلَامِ. قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ الْعَيْنِ: الرَّتْعُ: الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ رَغَدًا فِي الرِّيفِ، وَلَا -[52]- يَكُونُ الرَّتْعُ إِلَّا فِي الْخِصْبِ وَالسَّعَةِ كَمَا قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] وَتَقُولُ: رَتَعَ فُلَانٌ فِي مَالِ فُلَانٍ، إِذَا انْقَلَبَ فِيهِ أَكْلًا وَشُرْبًا، وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:

[البحر الكامل]

ارْعَيْ فَزَارَةُ، لَا هَنَاكَ الْمَرْتَعُ

وَقَالَ:

أَبَا جَعْفَرٍ لَمَّا تَوَلَّيْتَ ارْتَعَوْا ... وَقَالُوا لِدُنْيَاهُمْ أَفِيقِي فَدَرَّتِ

وَهَذَا مَعْنًى يَتَرَدَّدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمُ: النِّعْمَةُ الظَّلِيلَةُ، وَالْعَيْشُ الْمُورِقُ، وَالشَّبَابُ الْغَضُّ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَالنِّعْمَةُ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ فَتُورِقَ فَتُظِلَّ، وَكَذَلِكَ الْعَيْشُ وَالشَّبَابُ لَيْسَتْ بِأَجْسَامٍ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ حُوَيَصٍ الْمَهْرِيُّ لِهَرْدَةَ بْنِ عَلِيٍّ عِنْدَ كِسْرَى أَبْرَوِيزَ، وَذَكَرَ قَوْمًا فَقَالَ: كَانُوا تَحْتَ كَنَفٍ مِنَ النَّعْمَاءِ غَدِقٍ، وَرَبِيعٍ مِنَ الْخُضْرَةِ مُؤَنَّقٍ، تَنْهَلُّ دُهْمُهُ بِالْحَبُورِ وَتَتَدَفَّقُ دِيَمُهُ بِالسُّرُورِ، يَجْتَنُونَ تَمْرَ الْغِبْطَةِ، وَيَتَفَيَّأُونَ فِي ظِلَالِ النِّعْمَةِ، وَيَخْتَالُونَ فِي رِيَاضِ الظَّفَرِ، حِمَاهُمْ غَزِيرٌ، وَذُرَاهُمْ حَرِيرٌ. وَأَنْشَدَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ لِحُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ:

[البحر الطويل]

يَقُولَانِ طَالَ النَّأْي لَنْ يُحْصَى الَّذِي ... رَأَيْنَاهُ إِلَّا أَنْ يُعُدَّ لَبِيبُ

بَلَى فَاذْكُرُوا عَامَ ارْتَبَعْنَا وَأَهْلُنَا ... مَرَاتِعَ دَارًا وَالْجَنَابُ خَصِيبُ

وَلَا يُبِعِدُ اللَّهُ الشَّبَابَ وَقَوْلُنَا ... إِذَا مَا صَبَوْنَا صَبْوَةً سَنَئُوبُ

لَيَالِيَ أَبْصَارُ الْغَوَانِي وَسَمْعُهَا ... إِلَيَّ وَإِذْ رِيحِي لَهُنَّ جَنُوبُ

وَإِذْ مَا يَقُولُ النَّاسُ شَيْءٌ مُهَوِّنٌ ... عَلَيَّ وَإِذَا غُصْنُ الشَّبَابِ رَطِيبُ

-[53]-

55 - قَوْلُهُ: عَامَ ارْتَبَعْنَا، يُقَالُ: ارْتَبَعَ الْقَوْمُ إِذَا أَرْتَعُوا فِي الْخِصْبِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُمْ عَاشُوا عَيْشًا هَيِّنًا طَيِّبًا، وَقَوْلُهُ: وَالْجَنَابُ خَصِيبُ: يَعْنِي: الْحَالُ جَمِيلَةٌ، وَالْعَيْشُ هِنِيءٌ تَمْثِيلٌ، وَقَوْلُهُ: إِذْ رِيحِي لَهُنَّ جَنُوبُ: يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ مُوَافِقًا لَهُنَّ بِشَبَابِهِ وَطَرَاوَتِهِ كَمَا يُوَافِقُ الْجَنُوبُ الْمَطَرَ وَالْخَصْبَ، وَقَوْلُهُ: غُصْنُ الشَّبَابِ رَطِيبُ: يَعْنِي نَضَارَةَ الشَّبَابِ وَحَسَنَهُ وَاعْتِدَالَهُ، فَمَثَّلَهُ بِالْغُصْنِ إِذَا أَوْرَقَ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَبُعْدُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ كَبُعْدِ الْكَوْكَبَيْنِ، أَحَدُهُمَا يَطْلُعُ فِي الْمَشْرِقِ، وَآخَرُ يَغِيبُ فِي الْمَغْرِبِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الْكَوَاكِبَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى مَنَازِلَ لِلْقَمَرِ، كَمَا قَالَ: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39] وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْأَنْوَاءُ، وَيَسْقِي اللَّهُ عِبَادَهُ بِهَا الْغَيْثَ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَغِيبُ فِي الْمَغْرِبِ غُدْوَةً حَتَّى يَطْلُعَ رَقِيبُهُ فِي الْمَشْرِقِ غُدْوَةً، فَهُمَا لَا يَلْتَقِيَانِ وَلَا يَتَقَارَبَانِ، فَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ أَحْوَالِ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي حُظُوظِهِمْ وَمَكَاسِبِهِمْ، لَا يَتَقَارَبُ قَاهِرٌ وَمَقْهُورٌ، وَمَحْرُومٌ وَمَرْزُوقٌ، وَمُعَافًى وَمُبْتَلًى، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015