قال: وعنى بقوله: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أن يحجب ذلك الكلام عن جميع خلقه، إلا من يريد أن يكلّمه به؛ نحو كلامه تعالى لموسى عليه السلام، لانه حجب ذلك عن جميع الخلق إلا موسى عليه السلام وحده فى كلامه إياه أولا. فأما كلامه إياه فى المرة الثانية فإنه إنما أسمع ذلك موسى والسبعين الذين كانوا معه، وحجب (?) عن جميع الخلق سواهم. فهذا معنى قوله عز وجل:
أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، لأن الكلام هو الّذي كان محجوبا عن الناس.
وقد يقال: إنه تعالى حجب عنهم موضع الكلام الّذي أقام الكلام فيه؛ فلم يكونوا يدرون من أين يسمعونه؛ لأنّ الكلام عرض لا يقوم إلا فى جسم.
ولا يجوز أن يكون أراد بقوله: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أنّ الله تعالى كان مِنْ وَراءِ حِجابٍ/ يكلّم عباده؛ لأن الحجاب لا يجوز إلّا على الأجسام المحدودة.
قال: وعنى بقوله: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إرساله ملائكته بكتبه وبكلامه إلى أنبيائه عليهم السلام، ليبلّغوا عنه ذلك عباده على سبيل إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وآله، وإنزاله سائر الكتب على أنبيائه.
فهذا أيضا ضرب من الكلام الّذي يكلّم الله تعالى عباده ويأمرهم فيه بطاعته، وينهاهم عن معاصيه؛ من غير أن يكلّمهم على سبيل ما كلم به موسى، وهذا الكلام هو خلاف الوحى الّذي ذكره (?) الله تعالى فى أول الآية لأنه قد أفصح لهم فى هذا الكلام بما أمرهم به ونهاهم عنه.
والوحى الّذي ذكره تعالى فى أول الآية إنّما هو تنبيه وخاطر، وليس فيه إفصاح.
وهذا الّذي ذكره أبو عليّ أيضا سديد، والكلام محتمل لما ذكره.
ويمكن فى الآية وجه آخر، وهو أن يكون المراد بالحجاب البعد والخفاء، ونفى الظهور. وقد تستعمل العرب لفظة «الحجاب» فيما ذكرناه؛ يقول أحدهم لغيره إذا استبعد فهمه، واستبطأ فطنته: بينى وبينك حجاب، وتقول للأمر الّذي تستبعده وتستصعب طريقه: بينى وبين هذا الأمر حجب وموانع وسواتر؛ وما جرى مجرى ذلك؛ فيكون