أراد أنك لا تحكم أبدا. فإن قيل: ومن أين قلتم: إن ما علقه به لا يقع حتى حكمتم بأنه أراد نفى الملل على سبيل التأبيد؟ قلنا: معلوم أنّ الملل لا يشمل البشر فى جميع آرابهم (?) وأوطارهم، وأنهم لا يعرون من حرص ورغبة وأمل وطمع، فلهذا جاز أن يعلّق ما علم تعالى أنه لا يكون بمللهم.
والوجه الثانى أن يكون المعنى أنه لا يغضب عليكم ويطرحكم حتى تتركوا العمل له، وتعرضوا عن سؤاله، والرغبة فى حاجتكم إلى جوده؛ فسمّى الفعلين مللا؛ وإن لم يكونا على الحقيقة كذلك؛ على مذهب العرب فى تسميتها الشيء باسم غيره إذا وافق معناه فى بعض الوجوه، قال عدىّ بن زيد العبادىّ:
ثمّ أضحوا لعب الدّهر بهم … وكذاك الدّهر يؤدى بالرّجال (?)
وقال عبيد بن الأبرص الأسدىّ:
سائل بنا حجر ابن أمّ قطام إذ … ظلّت به السّمر الذّوابل تلعب (?)
فنسبا اللّعب إلى الدهر والقنا تشبيها؛ وقال ذو الرّمة:
وأبيض موشيّ القميص نصبته … على خصر مقلات سفيه جديلها (?)
فسمّى اضطراب زمامها، وشدة تحركه سفها؛ لأن السفه فى الأصل هو الطيش وسرعة الاضطراب/ والحركة، وإنما وصف ناقته بالذكاء والنشاط. فأما قوله: «وأبيض موشيّ القميص» فإنما عنى به سيفه، وقميصه: جفنه، والمقلات: الناقة التى لا يعيش لها ولد.
والوجه الثالث أن يكون المعنى أنه تعالى لا يقطع عنكم فضله وإحسانه حتى تملّوا من سؤاله، ففعلهم ملل على الحقيقة، وسمّى فعله تعالى مللا، وليس بملل على الحقيقة للازدواج