فأما قوله تعالى فى قصة موسى عليه السلام: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً فظاهره يقتضي أنك لا تستطيع ذلك فى
المستقبل؛ ولا يدلّ على أنه غير مستطيع للصبر فى الحال أن يفعله فى الثانى.
وقد يجوز أن يخرج فى المستقبل من أن يستطيع ما هو فى الحال مستطيع له؛ غير أن الآية تقتضى خلاف ذلك؛ لأنه قد صبر عن المسألة أوقاتا، إن ولم يصبر عنها فى جميع الأوقات، فلم تنتف الاستطاعة للصبر عنه فى جميع الأحوال المستقبلة.
على أن المراد بذلك واضح، وأنه تعالى خبّر عن استثقاله الصبر عن المسألة عما لا يعرف/ ولا يقف عليه؛ لأن مثل ذلك يصعب على النفس؛ ولهذا نجد أحدنا إذا وجد (?) بين يديه ما ينكره ويستبعده تنازعه نفسه إلى المسألة عنه، والبحث عن حقيقته، ويثقل عليه الكفّ عن الفحص عن أمره؛ فلما حدث من صاحب موسى ما يستنكر ظاهره استثقل الصبر عن المسألة عن ذلك.
ويشهد بهذا الوجه قوله تعالى: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً؛ [الكهف: 68]؛ فبيّن تعالى أن العلة فى قلة صبره ما ذكرناه دون غيره، ولو كان على ما ظنوا لوجب أن يقول: وكيف تصبر وأنت غير مطيق للصبر!
فأما قوله تعالى: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ فلا تعلّق لهم بظاهره؛ لأن السمع ليس بمعنى فيكون مقدورا، لأن الإدراك على المذهب الصحيح ليس بمعنى، ولو ثبت أنه معنى على ما يقوله أبو على لكان أيضا غير مقدور للعبد من حيث يختصّ القديم تعالى بالقدرة عليه.
هذا إن أريد بالسمع الإدراك؛ وإن أريد به نفس الحاسة فهى أيضا غير مقدورة للعباد؛ لأن الجواهر وما تخصّ به الحواس من البنية والمعانى ليصحّ به الإدراك مما ينفرد به القديم تعالى فى القدرة عليه. فالظاهر لا حجّة لهم فيه.