وقيل: إن الله تعالى أخبرها بأنه سيكون من ذرّية هذا المستخلف من يعصى ويفسد فى الأرض: فقالت على وجه التعرف لما فى هذا التدبير من المصلحة والاستفادة لوجه الحكمة فيه: أتجعل فيها من يفعل كذا وكذا؟
وهذا الجواب الأخير يقتضي أن يكون فى أول الكلام حذف ويكون التقدير: وإذ قال ربّك للملائكة إنّى جاعل فى الأرض خليفة، وإنى عالم أن سيكون من ذريته من يفسد فيها، ويسفك الدماء، فاكتفى عن إيراد هذا المحذوف بقوله تعالى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ لأن ذلك دلالة على الأول؛ وإنما حذفه اختصارا.
وفى جملة جميع الكلام اختصار شديد، لأنه تعالى لما حكى عنهم قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ كان فى ضمن هذا الكلام: فنحن على ما نظنه ويظهر لنا من الأمر أولى بذلك لأنا نطيع وغيرنا يعصى.
وقوله تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ يتضمن أيضا أننى أعلم من مصالح المكلّفين ما لا تعلمونه، وما يكون مخالفا لما تظنونه على ظواهر الأمور.
وفى القرآن من الحذوف العجيبة، والاختصارات الفصيحة ما لا يوجد فى شيء من الكلام؛ فمن ذلك قوله تعالى فى قصة يوسف عليه السلام والناجى من صاحبيه فى السجن عند رؤيا البقر السمان والعجاف: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ؛ [يوسف: 45]، [ففعلوا، فأتى يوسف، فقال له] (?): يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ؛ [يوسف: 46] [ولو بسط الكلام فأورد محذوفه لقال أنا أنبئكم بتأويله، فأرسلون ففعلوا، فأتى يوسف فقال له: يا يوسف أيها الصديق أفتنا (?)].
ومثله قوله فى الأنعام، قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؛ [الأنعام: 14]: أى، وقيل لى: ولا تكونن من المشركين.