وثانيها أن يكون معنى التعذيب بالأموال والأولاد فى الدّنيا هو ما جعله للمؤمنين من قتالهم وغنيمة أموالهم وسبى أولادهم واسترقاقهم؛ وفى ذلك لا محالة إيلام لهم، واستخفاف بهم، وإنما أراد تعالى بذلك إعلام نبيه عليه السلام والمؤمنين أنه لم يرزق الكفار الأموال والأولاد؛ ولم يبقها فى أيديهم كرامة لهم، ورضا عنهم؛ بل للمصلحة الداعية إلى ذلك، وأنهم مع هذه الحالة معذبون بهذه النعم من الوجه الّذي ذكرناه، فلا يجب أن يغبطوا، ويحسدوا عليها؛ إذ كانت هذه عاجلتهم، والعقاب الأليم فى النار آجلتهم؛ وهذا جواب أبى عليّ الجبائىّ.
وقد طعن عليه بعض من لا تأمّل له فقال: كيف يصح هذا التأويل، مع أنا نجد كثيرا من الكفّار لا تنالهم أيدى/ المسلمين، ولا يقدرون على غنيمة أموالهم، ونجد أهل الكتاب أيضا خارجين عن هذه الجملة لمكان الذّمة والعهد؟ وليس هذا الاعتراض بشيء، لأنه لا يمتنع أن تختص الآية بالكفار الذين لا ذمة لهم ولا عهد؛ ممن أوجب الله تعالى محاربته؛ فأما الذين لا تنالهم الأيدى، أو هم من القوة على حدّ لا يتم معه غنيمة أموالهم؛ فلا يقدح الاعتراض بهم فى هذا الجواب لأنهم ممن أراد الله تعالى أن يسبى ويغنم، ويجاهد ويغلب؛ وإن لم يقع ذلك؛ وليس فى ارتفاعه بالتعذّر دلالة على أنه غير مراد.
وثالثها أن يكون المراد بتعذيبهم بذلك كلّ ما يدخله فى الدنيا عليهم من الغموم والمصائب بأموالهم وأولادهم التى لهؤلاء الكفار المنافقين عقاب وجزاء، وللمؤمنين محنة وجالبة للعوض وللنفع.
ويجوز أيضا أن يراد به ما ينذر به الكافر قبل موته، وعند احتضاره، وانقطاع التكليف عنه مع أنه حىّ، من العذاب الدائم الّذي قد أعدّ له، وإعلامه أنه صائر إليه، ومنتقل إلى قراره؛ وهذا الجواب قد روى معنى أكثره عن قوم من متقدمى المفسرين (?)، وذكره أبو عليّ الجبائىّ أيضا.