بعد قيام الحجة بما تقدّم من آياتهم ومعجزاتهم؛ لأنّه تعالى إنما يظهر هذا الضرب من المعجزات إذا علم أنّه يؤمن عنده من لم يؤمن بما تقدم من الآيات، فإذا علم خلاف ذلك لم يظهرها، وصرف الذين علم من حالهم أنهم لا يؤمنون عنها، ويكون الصّرف على أحد وجهين: إمّا بألّا يظهرها جملة، أو بأن يصرفهم عن مشاهدتها، ويظهرها بحيث ينتفع بها غيرهم.
فإذا قيل: وما الفرق فيما ذكرتموه بين ابتداء المعجزات، وبين زيادتها؟ قلنا: الفرق بينهما أن المعجز الأوّل يجب إظهاره لإزاحة العلّة فى التكليف؛ ولأنّا به نعلم صدق الرسول المؤدّى إلينا ما فيه لطفنا ومصلحتنا.
فإذا كان التكليف يوجب تعريف (?) المصالح والألطاف لتنزاح العلّة، وكان لا سبيل إلى معرفتها على الوجه الّذي تكون عليه لطفا إلّا من قبل الرسول، وكان لا سبيل إلى العلم بكونه رسولا إلّا من جهة/ المعجز وجبت بعثة الرسول وتحميله ما فيه مصلحتنا من الشرائع، وإظهار المعجز على يده لتعلّق هذه الأمور بعضها ببعض، ولا فرق فى هذا الموضع بين أن يعلم أنّ المبعوث إليهم الرسول، أو بعضهم يطيعون ويؤمنون، وبين ألّا يعلم ذلك فى وجوب البعثة، وما يجب بوجوبها، لأنّ تعريف المصالح مما يقتضيه التكليف العقلىّ الّذي لا فرق فى حسنه بين أن يقع عنده الإيمان أو لا يقع؛ وليس هذه سبيل ما يظهر من المعجزات بعد قيام الحجة بما تقدم منها؛ لأنّه متى لم ينتفع بها منتفع، ويؤمن عندها من لم يؤمن لم يكن فى إظهارها فائدة، وكانت عبثا؛ فافترق الأمران.
فإن قيل: كيف يطابق هذا التأويل قوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ، ومن المعلوم أنّ صرفهم عن الآيات لا يكون مستحقا بذلك؟ قلنا: يمكن أن يكون قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا لم يرد به تعليل قوله: سَأَصْرِفُ، بل يكون كالتعليل لما هو أقرب إليه فى ترتيب الكلام، وهو قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَ