رَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي حَامِدِ بْنِ الشَّرْقِيِّ، قَالَ: كَتَبَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ مَعْنَا هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرٍ، يَعْنِي حَدِيثَ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَسَمِعْتُ مُسْلِمًا، يَقُولُ: لَا نَرَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِسْنَادًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عُثْمَانَ الصَّابُونِيُّ، عَنْ أَبِي سَعيِدِ بْنِ حَمْدُونَ، عَنْ أَبِي حَامِدِ بْنِ الشَّرْقِيِّ أَيْضًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: كَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يُصَلِّيهَا، وَتَدَاوَلَهَا الصَّالِحُونَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِلْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ.
وَأَقْدَمُ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ فِعْلُهَا أَبُو الْجَوْزَاءِ بِجِيمٍ مَفْتُوحَةٍ وَزَايٍ، اسْمُهُ أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا نُودِيَ بِالظُّهْرِ أَتَى الْمَسْجِدَ، فَيَقُولُ لِلْمُؤَذِّنِ: لَا تُعْجِلْنِي عَنْ رَكَعَاتٍ، فَيُصَلِّيهَا بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَكَذَا وَرَدَ النَّقْلُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ، وَمَنْ تَبِعَهُ، وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَهُوَ أَقْدَمُ مِنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: «مَنْ أَرَادَ الْجَنَّةَ فَعَلَيْهِ بِصَلَاةِ التَّسْبِيحِ» ، وَمِمَّنْ جَاءَ عَنْهُ التَّرْغِيبُ فِيهَا وَتَقْوِيَتُهَا الْإِمَامُ أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ الزَّاهِدُ، قَالَ: «مَا رَأَيْتُ لِلشَّدَائِدِ وَالْغُمُومِ مِثْلَ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ» ، وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ: صَلَاةُ التَّسْبِيحِ أَشْهَرُ الصَّلَوَاتِ وَأَصَحُّهَا إِسْنَادًا، وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي الْأَحْكَامِ: جُمْهُورُ الْعُلْمَاءِ لَمْ يَمْنَعَوْا مِنْ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَطْوِيلِ الِاعْتِدَالِ، وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو مُحَمَّدِ الْجُوَيْنِيُّ بِاسْتِثْنَاءِ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ: صَلَاةُ التَّسْبِيحِ مِنْ مُهِمَّاتِ مَسَائِلِ الدِّينِ، وَحَدِيثُهَا حَسَنٌ، نَصَّ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا أَبُو حَامِدٍ، وَصَاحِبُهُ الْمَحَامِلِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَوَلَدُهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَصَاحِبُهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ: لَا يُغْتَرُّ بِمَا وَقَعَ فِي الْأَذْكَارِ، فَإِنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَاعْتَمَدَ عَلَى قَوْلِ الْعُقَيْلِيُّ: إِنَّ حَدِيثَهَا لَا يَثْبُتُ، قَالَ: وَالظَّنُّ بِهِ أَنَّهُ لَوِ اسْتَحْضَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ لِمَا قَالَ ذَلِكَ، قُلْتُ: وَالشَّيْخُ وَإِنْ ضَعَّفَ الْحَدِيثَ، فَآخِرُ كَلَامِهِ يَقْتَضِي التَّرْغِيبَ فِي فِعْلِهَا، فَقَدْ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ كَلَامِ الرُّويَانِيِّ: فَيَكْثُرُ الْقَائِلُ بِهَذَا الْحُكْمِ، وَيُسْتَفَادُ مِمَّا قَالَهُ السُّبْكِيُّ زِيَادَةُ الْقَائِلِينَ بِهَا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمِمَّنْ لَمْ يَذْكُرَاهُ: الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَصَاحِبَاهُ الْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي، وَمِنْ قُدَمَائِهِمْ: أَبُو عَلِيٍّ زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ السَّرْخَسِيُّ، قَالَ: ثَبَتَ ذِكْرُ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ فِي إِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَفِيهِ فَضْلٌ كَثِيرٌ، نَقَلَهُ عَنْهُ الطَّبَرِيُّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ فِي كِتَابِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَقَدِ اخْتَلَفَ كَلَامُ الشَّيْخِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ فِي الْأَذْكَارِ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ، وَفِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ: إِنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَفِي الْمَجْمُوعِ لَهُ: حَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ، وَفِيهَا تَغْيِيرُ نُظُمِ الصَّلَاةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُفْعَلَ، وَفِي كِتَابِ التَّحْقِيقِ لَهُ نَحْوُ هَذَا، وَأَجَابَ السُّبْكِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا تَغْيِيرٌ إِلَّا فِي الْجُلُوسِ قَبْلَ الْقِيَامِ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَذَا الرَّابِعَةِ، وَذَاكَ مَحَلُّ جَلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ، فَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا تَطْوِيلُهَا، لَكِنَّهُ بِالذِّكْرِ، وَأَجَابَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ بِأَنَّ النَّافِلَةَ يَجُوزُ فِيهَا الْقِيَامُ وَالْقُعُودُ حَتَّى فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ، قُلْتُ: وَظَهَرَ لِي جَوَابٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْجَلْسَةَ ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهَا فِي صَلَاةِ التَّسْبِيحِ فَهِيَ كَالرُّكُوعِ الثَّانِي فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ، اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءُ فِي صَلَاةِ التَّسْبِيحِ: ذَكَرَ زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ وَهُوَ مِنْ طَبَقَةِ التِّرْمِذِيِّ اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِي صَلَاةِ التَّسْبِيحِ، فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ لِلشَّافِعِيِّ، وَلَا لِمَالِكٍ، وَلَا لِلْأَوْزَاعِيِّ، وَلَا لِأَهْلِ الرَّأْي فِيهَا قَوْلًا، وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: إِنْ فَعَلَ فَحَسَنٌ، وَسَقَطَ أَحْمَدُ مِنْ نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْفُرُوعِ، أَنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ فَنَفَضَ يَدَهُ، وَقَالَ: لَمْ يَصِحَّ فِيهَا شَيْءٌ، وَلَمْ يَرَ اسْتِحْبَابَهَا، فَإِنْ فَعَلَهَا إِنْسَانٌ فَلَا بَأْسَ، لِأَنَّ الْفَضَائِلَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الصِّحَّةُ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ، فَقَالَ: مَا يَصِحُّ فِيهَا عِنْدِي شَيْءٌ، فَقُلْتُ: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو؟ قَالَ: كُلٌّ يَرْوِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ، يَعْنِي: فِيهِ مَقَالٌ، فَقُلْتُ: قَدْ رَوَاهُ الْمُسْتَمِرُّ بْنُ الرَّيَّانِ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، قَالَ مَنْ حَدَّثَكَ؟ ، قُلْتُ: مُسْلِمٌ، يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: الْمُسْتَمِرُّ شَيْخٌ ثِقَةٌ، وَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ، فَكَأَنَّ أَحْمَدُ لَمْ يَبْلُغْهُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ أَوَّلًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ النُّكْرِيُّ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مُتَابَعَةُ الْمُسْتَمِرِّ أَعْجَبَهُ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ تَضْعِيفِهِ، وَقَدْ أَفْرَطَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَتْبَاعِ أَحْمَدَ كَابْنِ الْجَوْزِيِّ، فَذَكَرَ حَدِيثَهَا فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَتَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِ، وَكَابْنِ تَيْمِيَةَ، فَجَزَمَ بِأَنَّ حَدِيثَهَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ بِلْ بَاطِلٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي، وَنَقَلَ عَنْهُ صَاحِبُ الْفُرُوعِ أَنَّ خَبَرَهَا كَذِبٌ، وَنَصَّ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُهُ عَلَى كَرَاهَتِهَا، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي الْوَسِيطِ: قَالَ بَعْضُ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنَ الْحُفَّاظِ: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي صَلَاةِ التَّسْبِيحِ أَنَّ حَدِيثَهَا كَذِبٌ، وَلَمْ يَقُلْ بِهَا إِلَّا طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، قُلْتُ: بَلْ أَثْبَتَهَا أَئِمَّةُ الطَّرِيقَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَالْحَافِظُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَظُنُّهُ: ابْنَ تَيْمِيَةَ، أَوْ مَنْ أَخَذَ عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي الْأَحْكَامِ: جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ لَمْ يَمْنَعُوا مِنْهَا، وَتَقَدَّمَ كَلَامُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا، وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ أَرَ عَنْهُمْ شَيْئًا، إِلَّا مَا نَقَلَهُ السُّرُوجِيُّ عَنْ مُخْتَصَرِ الْبَحْرِ فِي مَذْهَبِهِمْ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَثَوَابُهَا عَظِيمٌ.