الفصل الأول
وسطية القرآن في العبادة
تمهيد:
منذ أن خلق الله الإنسان أوجد فيه القلب والعقل، والعاطفة والفكر، ووهبه القدرة والإرادة، وأمره وزوجه أن يسكنا الجنة، ونهاهما عن أكل الشجرة، وكان أمره -سبحنه- ونهيه لمقتضى ألوهيته وربوبيته على من كانت مقتضيات بشريته وآدميته محلا صالحا للعبودية التامة، ومن أول نظرة نجد أن هذه الحقيقة التي تثبتها عقيدة الرسل الكرام -عليهم السلام- ابتداء، تقول لنا: إن هذا بيان حاسم للتفريق بين ألوهية الباري -سبحانه وتعالى- المقتضية للخلق والأمر، كما يشاء وفق علمه وحكمته، وبين عبودية الخلق المقتضية للسمع، والانقياد، وفق التركيب الرباني الموجود في الإنسان المتجلي في الإرادة والقدرة، ومن هنا لا بد من وجود قاعدة الجد والقصد، والوسط والاعتدال، والعدل والحق في بناء هذا الكون بالتميز بين حقيقة الألوهية بحقوقها ولوازمها، وبين حقيقة العبودية بحدودها وضوابطها، وما ينتج من هاتين الحقيقتين من سمات وصفات ونتائج وهذه هي الانطلاقة الأولى لقضية التوحيد بالنسبة للإنسانية على وجه المعمورة، بدأت من آدم -عليه السلام- أبي البشر مرورًا بالأنبياء والمرسلين -عليهم السلام- حتى قيام الساعة، انفتحت وظيفة الإنسان في هذه الحياة، وتحددت بها مهمته في هذا الوجود (?).
يقول ابن تيمية -رحمه الله-: (فالإنسان وكل مخلق فقير إلى الله بالذات، وفقره من لوازم ذاته، يمتنع أن يكون إلا فقيرا إلى خالقه، وليس أحد غنيا بنفسه إلا الله وحده، فهو الصمد الغني عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه فالعبد فقير إلى الله من جهة ربوبيته ومن جهة ألوهيته) (?).
ذلك (أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه، ومحبته، والإخلاص له ... وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه، وتألهم كحاجتهم وأعظم في