وتواريخ الأمم وعلوم التشريع والفلسفة والأدب، حتى إن مكة عاصمة بلادهم وقاعدة دينهم ومثوى كبرائهم ورؤسائهم، ومثابة الشعوب والقبائل للحج والتجارة فيها والمفاخرة بالفصاحة والبلاغة فى أسواقها التابعة لها لم يكن يوجد فيها مدرسة ولا كتاب مدون قط، فما جاء به من الدين التام الكامل، والشرع العام العادل، لا يمكن أن يكون مكتسبا، ولا أن يكون مستنبطا بعقله وفكره كما بيناه من قبل، وسندفع ما يرد من الشبهة عليه بعد (فى الفصل الثالث).
ويرى تجاه هذا أن موسى (ع. م) أعظم أولئك الأنبياء فى علمه وعمله، وفى شريعته وهدايته قد نشأ فى أعظم بيوت الملك لأعظم شعب فى الأرض وأرقاه تشريعا وعلما وحكمة وفنا وصناعة، وهو بيت فرعون مصر، ورأى قومه فى حكم هذا الملك القوى القاهر مستعبدين مستذلين، تذبّح أبناؤهم وتستحيى نساؤهم، تمهيدا لإبادتهم ومحوهم من الأرض، ثم إنه مكث بضع سنين عند حمية فى مدين وكان نبيا- أو كاهنا كما يقولون- فمن ثم يرى منكرو الوحى أن ما جاء به موسى من الشريعة الخاصة بشعبه ليس بكثير على رجل كبير العقل عظيم الهمة، ناشئ فى بيت الملك والتشريع والحكمة إلخ.
ثم ظهر فى أوائل القرن الميلادى أنّ شريعة التوراة موافقة فى أكثر أحكامها لشريعة حمورابى العربى ملك الكلدان الذى كان قبل موسى معاصرا لإبراهيم صلّى الله عليه وسلم، وقد قال الذين عثروا على هذه الشريعة من علماء الألمان فى حفائر العراق أنه قد تبين أن شريعة موسى مستمدة منها لا وحى من الله تعالى (?)، وأقل ما يقوله مستقل الفكر فى ذلك: إنه إن لم تكن التوراة مستمدة منها فلا تعد أحق منها بأن تكون وحيا من الله تعالى، ولم ينقل أن حمورابى ادعى أن شريعته وحى من الله تعالى.
ثم يرى الناظر أن سائر أنبياء العهد القديم كانوا تابعين للتوراة متعبدين بها، وأنهم كانوا يتدارسون تفسيرها فى مدارس خاصة بهم وبأبنائهم مع علوم أخرى، فلا يصح أن يذكر أحد منهم مع محمّد ذكر موازنة ومفاضلة، ويرى أيضا أن يوحنا المعمدان الذى شهد المسيح بتفضيله عليهم كلهم لم يأت بشرع ولا بنبإ غيبى- بل أن عيسى عليه السلام وهو أعظمهم قدرا، وأعلاهم ذكرا، وأجلاهم أثرا، لم يأت بشريعة جديدة، بل كان تابعا لشريعة التوراة مع نسخ قليل من أحكامها، وإصلاح روحى وأدبى لجمود اليهود المادى على ظواهر ألفاظها، فأمكن لجاحدى الوحى أن يقولوا إنه لا يكثر على رجل مثله زكى الفطرة، ذكى