الفصل الخامس فى مقاصد القرآن فى تربية نوع الإنسان وحكمة ما فيه من التكرار فى الهداية وإعجازه بالبيان
إن مقاصد القرآن من إصلاح أفراد البشر وجماعاتهم وأقوامهم، وإدخالهم فى طور الرشد، وتحقيق. أخوتهم الإنسانية ووحدتهم، وترقية عقولهم، وتزكية أنفسهم؛ منها ما يكفى بيانه لهم فى الكتاب مرة أو مرتين أو مرارا قليلة، ومنها ما لا تحصل الغاية منه إلا بتكراره مرارا كثيرة لأجل أن يجتث من أعماق الأنفس كل ما كان فيها من آثار الوراثة والتقاليد والعادات القبيحة الضارة، ويغرس فى مكانها أضدادها، ويتعاهد هذا الغرس بما ينميه حتى يؤتى أكله، ويبدو صلاحه، ويينع ثمره، ومنها ما يجب أن يبدأ بها كاملة، ومنها ما لا يمكن إلا بالتدريج، ومنها ما لا يمكن وجوده إلا فى المستقبل، فيوضع له بعض القواعد العامة، ومنها ما يكفى فيه الفحوى والكناية.
والقرآن كتاب تربية عملية وتعليم، لا كتاب تعليم فقط، فلا يكفى أن يذكر فيه كل مسألة مرة واحدة واضحة تامة كالمعهود فى متون الفنون وكتب القوانين وقد بين الله تعالى ذلك بقوله فى موضوع البعثة المحمدية: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 1، 2]، فآياته المتلوة هى سور القرآن، المرشدة إلى سننه فى الأكوان، والتزكية هى التربية بالعمل وحسن الأسوة، و (الكتاب) هو الكتابة التى تخرج العرب من أميتهم، و (الحكمة) هى العلوم النافعة الباعثة على الأعمال الصالحة، وما يسمى فى عرف شعوب الحضارة بالفلسفة، فجميع مقاصد القرآن وبيان السنة له تدور على هذه الأقطاب الثلاثة.
وإننا نذكر هنا أصول هذه المقاصد كما وعدنا عند قولنا: إن ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم هو أعلى وأكمل مما جاء به من قبله من جميع الأنبياء والحكماء والحكام. فهو برهان علمى على أنه من عند الله تعالى، لا من فيض استعداده الشخصى.