الوحي المحمدي (صفحة 103)

فعل القرآن فى أنفس الأمة العربية وإحداثها به أكبر ثورة عالمية

تهود أناس من العرب، وتنصّر منهم أناس آخرون من قبل الإسلام بقرون، وكان كل منهم يمدح دينه ويدعو إليه بالطبع. فلم يعاد الجمهور أحدا منهم أو يحتقره لدينه بل كان لزعماء اليهود المستعربين وشعراء النصارى من العرب عندهم مكانتهم اللائقة بهم كأمثالهم من المشركين، ولم يكن لليهودية ولا للنصرانية أدنى صولة فى مكة، ولا خافها رؤساء قريش على زعامتهم الدينية ولا الدنيوية، فلما قام فيهم محمد ابن عبد الله يتلو عليهم القرآن باسم الله زلزلت الأرض بهم زلزالها، وثاروا عليه ثورتهم الصغرى، ثم ثارت الأمة به ومعه ثورتها الكبرى، وهى التى بدلت الأرض، والقلوب غير القلوب، والعقول غير العقول وقلبت نظام الاجتماع العام.

وقد كان فعل القرآن فى أنفس العرب وإحداثه تلك الثورة الكبرى فيهم على نوعين أولهما ما أحدثه من الزلزال فى المشركين، وثانيهما تزكيته للمؤمنين ونزعه كل ما كان بأنفسهم من غل وجهل وظلم وفساد. حتى أعقب ما أعقب من الإصلاح فى العالم كله؛ وأمهد لبيان ذلك بكلمة فى حالهم فى عصر ظهور الإسلام.

بينا مرارا أن الله تعالى قد أعد الأمة العربية- ولا سيما قريش ومن حولها- لما أراده من الإصلاح العام للبشر بكونهم كانوا أقرب الأمم إلى سلامة الفطرة، وأرقاهم لغة فى التعبير والتأثير، وأقواهم استقلالا فى العقل والإرادة. لعدم وجود ملوك مستبدين فيهم يضعفون إرادتهم ويفسدون بأسهم، ويذلون أنفسهم بالقوة القاهرة، ولا رؤساء دين أولى سلطان روحى يسيطرون على عقولهم وقلوبهم، ويتحكمون فى عقائدهم وأفكارهم، ويسخرونهم لشهواتهم، وكانت جميع الأمم ذات الحضارة والملل مستعبدة مستذلة لزعماء هاتين الرئاستين، حاش العرب.

فلما بعث فيهم محمد صلّى الله عليه وسلم بهذا القرآن الداعى إلى الحق وإلى صراط مستقيم، كانوا على أتم الاستعداد الفطرى لقبول دعوته، ولكن رؤساء قريش كانوا على مقربة من ملوك شعوب العجم؛ فى التمتع بالثروة الواسعة، والعظمة الكاذبة، والشهوات الفاتنة، والسرف فى الترف، وعلى حظ مما كان عليه رؤساء الأديان فيها من المكانة الدينية بسدانتهم لبيت الله الحرام. الذى أودع الله تعظيمه فى القلوب من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015