ولو من بعض الوجوه خير من العمل بأحدهما وإهمال الآخر؛ لأن الأصل في الدليلين إعمالهما، وعند الجمع بين الدليلين يزول التعارض الظاهري، وكان هذا بيانًا للمراد من النصين؛ لأنه لا تعارض في الحقيقة بينهما، حتى لو كان أحد الدليلين من السنة، والآخر من الكتاب على الأصح.
ويمكن الجمع بين الدليلين والعمل بهما معًا بطرق كثيرة، كأن يكون أحدهما عامًّا والآخر خاصًّا، أو أحدهما مطلقًا والآخر مقيدًا، أو أحدهما حقيقة والآخر مجازًا، وسبق بيان ذلك في الدلالات، وكما سبق كثير من الأمثلة في طريقة الحنفية في الجمع بين النصوص.
ويمكن الجمع بين الدليلين والعمل بهما معًا بالتبعيض، وذلك في حالات ثلاث:
أ- أن يكون حكم كل من الدليلين المتعارضين قابلًا للتبعيض، فالعمل بهما متعذر، فيعمل بهما من بعض الوجوه، فيكون قد عمل بكل واحد في بعض الحكم، كوضع اليد من اثنين على دار، فتقسم بينهما.
ب- أن يكون حكم كل واحد من الدليلين متعددًا، بأن يحتمل أحكامًا كثيرة، فيعمل بالدليلين، بأن يثبت بكل واحد منهما بعض الأحكام، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاةَ لجارِ المسْجد إلا في المسجد" (?)، فإنه معارض لتقريره - صلى الله عليه وسلم - لمنْ صلى في غير المسجد مع كونه جارًا (?)، فهذان الحديثان يشتملان على أحكام متعددة، فالحديث الأول يحتمل نفي الصحة ونفي الكمال ونفي الفضيلة، والحديث الثاني يحتمل ذلك أيضًا، فيحمل الأول على نفي الكمال، والثاني يحمل على الصحة.
جـ- أن يكون حكم كل من الدليلين عامًّا، أي: متعلقًا بأفراد كثيرة،