والبال إِلَيْهِ وَأمرُوا بِأخذ قوته الَّذِي لَا بُد لَهُ مِنْهُ فِي مَادَّة الْحَيَاة وَصرف بَاقِي الزَّمَان بالهمة إِلَى تِلْكَ الْفَضَائِل الَّتِي هِيَ السَّعَادَة. وَهَذَا الْمَعْنى يلوح للنَّاظِر وَيبين لَهُ بَيَانا جلياً إِذا نظر إِلَى فَوق مَا بَين الْإِنْسَان وَسَائِر الْحَيَوَانَات لِأَنَّهُ إِنَّمَا فَضلهَا بِخَاصَّة النَّفس لَا بخواص الْجَسَد لِأَن خَواص الْجَسَد للحيوانات أتم وأغزر - وَقد علم أَن الْإِنْسَان أفضل مِنْهَا - وأعنى بخواص الْجَسَد الأيد والبطش وَالْقُدْرَة على الْأكل وَالشرَاب وَالْجِمَاع وَمَا أشبه ذَلِك فَإِذا تمامية الْإِنْسَان وفضيلته إِنَّمَا هِيَ بِهَذِهِ المزية الَّتِي وجدت لَهُ دون غَيره فالمستريد مِنْهَا أَحَق باسم الإنسانية وَأولى بِصفة الْفَضِيلَة وَلِهَذَا يُقَال: فلَان كثير الإنسانية وَهُوَ من أبلغ مَا يمدح بِهِ. وَمن أحب الِاطِّلَاع على تِلْكَ الْأُصُول والاستكثار مِنْهَا وبلوغ غَايَة الْيَقِين فِيهَا فليأخذه من مظانه. فَأَما حرص النَّاس - مَعَ شُعُورهمْ بِهَذِهِ الْفَضِيلَة - وكلبهم على الدُّنْيَا بركوب الْبر وَالْبَحْر لأجل الملاذ الخسيسة فَلِأَن الْجُزْء الَّذِي فِينَا معاشر الْبشر من الْجِسْم الطبيعي أقوى من الْجُزْء الآخر. وَعرض لنا من تجاذب هَاتين القوتين مَا يعرض لكل مركب من قوى مُخْتَلفَة فَيكون الْأَقْوَى أبدا وَنحن وَإِن علمنَا أَن هَذَا كَمَا حكيناه وتيقنا هَذَا الْمَذْهَب تَيَقنا لَا ريب فِيهِ فَإنَّا فِي جِهَاد دَائِم فَرُبمَا غلب علينا هَذَا الْجُزْء وَرُبمَا ملنا إِلَى الْجُزْء الآخر بِحَسب الْعِنَايَة وسأضرب فِي ذَلِك مثلا من العيان والحس وَهُوَ أَن الْمَرِيض والناقة وَالْخَارِج عَن مزاج الِاعْتِدَال قد تَيَقّن أَنه بالحمية وَترك الشَّهَوَات يعود إِلَى الصِّحَّة والاعتدال الطبيعي وَهُوَ مَعَ ذَلِك لَا يمْتَنع من كثير من شهواته لشدَّة