وَذَلِكَ أَن الْحَرَارَة الغريزية الَّتِي فِي الإجسام المركبة من الطبائع الْأَرْبَع مَا دَامَت فِي زِيَادَة قوتها فَهِيَ تنشىء الْجِسْم الَّذِي هِيَ فِيهِ بِأَن تجتذب إِلَيْهِ الرطوبات الملائمة بدل مَا يتَحَلَّل مِنْهَا فَتكون غذَاء لَهُ ثمَّ تبقى بَقِيَّة جذبها فضل الْقُوَّة - فاضلة عَن قدر الْغذَاء الَّذِي عوض من المتحلل فزادتها فِي مساحة الْجِسْم ومددت بهَا أقطاره فَإِذا تناهت الْقُوَّة وقفت فَلم تزد فِي الأقطار شَيْئا بل غايتها حِينَئِذٍ أَن تحفظ على ذَلِك الْجِسْم أقطاره ومقداره بِأَن تغذية أَعنِي أَن تجتذب من الرطوبات مِقْدَار مَا يسري فِي الْجِسْم عوضا عَمَّا تحلل بِلَا زِيَادَة تَنْصَرِف إِلَى التزييد والتمديد. ثمَّ إِن الْحَرَارَة تضعف قَلِيلا وَتَأْخُذ فِي النُّقْصَان بعد أَن تقف وَقْفَة فِي زمَان التكهل فيبتدىء الْبدن فِي النَّقْص وَيصير الْإِنْسَان إِلَى الانحطاط عَن تِلْكَ الْحَرَكَة الأولى فَلَا يزَال الْغذَاء ينقص عَن مِقْدَار الْحَاجة فَلَا يَفِي مَا يعتاض من الرُّطُوبَة بِمَا تحلل مِنْهَا فَهُوَ كَذَلِك إِلَى أَن يهرم ويبلغ إِلَى الإنحلال الَّذِي هُوَ مُقَابل التَّرْكِيب الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ وَهُوَ الْمَوْت الصَّحِيح الطبيعي. وَهَذِه سَبِيل كل حَرَكَة قهرية فِي أَنَّهَا تبتدىء بتزيد ثمَّ تَنْتَهِي إِلَى غَايَة ثمَّ تقف وَقْفَة ثمَّ تنحط. وَلما كَانَ مزاج الْإِنْسَان وكل مركب من الطبائع المتضادة إِنَّمَا كَانَ بِجَامِع جمعهَا وقاهر قهرها حَتَّى ألفها مَعَ تضادها ونفور بَعْضهَا من بعض - صَارَت حركتها قهرية وَمن شَأْن الْحَرَكَة القهرية مَا ذكرت من أمرهَا إِذا لم يتبعهَا القاهر أبدا بقهر بعد قهر. فَوَجَبَ فِي حَرَكَة النشوء مَا وَجب فِي كل حَرَكَة من جِنْسهَا وَلم يعد الشَّيْخ كهلاً ثمَّ شَابًّا ثمَّ طفْلا لِأَن الْحَرَكَة لم تقع على هَذَا النظام وَلَا الشيخوخة هِيَ غَايَة الْحَرَكَة بل هِيَ غَايَة الضعْف وَنَظِير الطفولة. ووسط زمَان الْإِنْسَان الَّذِي بَين الطفولة والشيخوخة هُوَ غَايَته ثمَّ الْعود فِي الانحطاط وَالْحَرَكَة يكون على سَبِيل مَا بَدَأَ.