ثم كان الصحابي يرى من إكرام التابعين له وتوقيرهم وتبجيلهم ما لا يخفى أثره على النفس، ويعلم أنه إن بان لهم منه أنه كذب كذبة سقط من عيونهم ومقتوه واتهموه بأنه لم يكن مؤمنا وإنما كان منافقا.
وقد كان بين الصحابة ما ظهر واشتهر من الاختلاف والقتال ودام ذلك زمانا، ولم يبلغنا عن أحد منهم أنه رمى مخالفَهُ بالكذب في الحديث، وكان التابعون إذا سمعوا حديثا من صحابي سألوا عنه غيره من الصحابة، ولم يبلغنا أن أحدًا منهم كذَّبَ صاحبه، غاية الأمر أنه قد يخطئه، وكان المهلب بن أبي صفرة في محاربته الأزارقة يعمل بما رُخِّصَ فيه للمحارب من التورية الموهمة، فعاب الناسَ عليه ذلك حتى قيل فيه:
أنتَ الْفَتَى كُلَّ الْفَتَى ... لَوْ كُنْتَ تَصْدُقُ مَا تَقُولُ
ثم كان الرجل من أصحاب الحديث يرشَّحُ لطلب الحديث وهو طفل، ثم ينشأ دائبا في الطلب والحفظ والجمع ليلًا ونهارا، ويرتحل في طلبه إلى أقاصي البلدان، ويقاسي المشاقَّ الشديدة كما هو معروف في أخبارهم، ويصرف في ذلك زهرة عمره إلى نحو ثلاثين أو أربعين سنة، وتكون أمنيته الوحيدة من الدنيا أن يقصده أصحاب الحديث ويسمعوا منه ويرووا عنه.
وفي "تهذيب التهذيب" (ج 1، ص 183): "قال عبد الله بن محمود المروزي: سمعت يحيى بن أكثم يقول: كنت قاضيا وأميرا ووزيرا، ما ولج سمعي أحلى من قول المستملي (?): من ذكر رضي الله عنك؟ ".
وفيه (ج 6، ص 314): "روي عن عبد الرزاق أنه قال: حججت فمكثت ثلاثة أيام لا يجيئني أصحاب الحديث فتعلقت بالكعبة وقلت: يا رب ما لي أكذاب أنا؟ أمدلس أنا؟ فرجعت إلى البيت فجاءوني".