فأما القرآن فأمروا بحفظه بطريقين:
الأولى: حفظ الصدور، وعليها كان اعتمادهم في الغالب.
الثانية: بالكتابة، فكان يُكتب في العهد النبوي في قطع صغيرة من جريد النخل وغيرها، قلما غزا المسلمون اليمامة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بقليل، استحرَّ القتل بالقرَّاء قبل أن يأخذ عنهم التابعون، فكان ذلك مظنَّة نقصٍ في الطريق الأولى، فرأى عمر المبادرة إلى تعويض ذلك بتكميل الطريق الثانية، فأشار عَلَى أبي بكر بجمع القرآن في صحف، فنفر منها أبو بكر وقال: "كيف نفعل ما لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ ". فقال عمر: "هو والله خير" يريد أنه عملٌ يتم به مقصود الشرع من حفظ القرآن، وعدم فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- له إنما كان لعدم تحقق المقتضى وقد تحقق، ولا يترتب على الجمع محذور، فهو خيرٌ محضٌ.
فجمع القرآن في صحف بقيت عند أبي بكر، ثم عند عمر، ثم عند ابنته حفصة أم المؤمنين حتى طلبها عثمان في خلافته وكتب المصاحف.
ومعنى هذا أنه طول تلك المدة التي لم تَبْدُ حاجةٌ إلى تلك الصحف، بل بقي القراء يبلغون القرآن من صدورهم، ومنهم من كتب من صدره مصحفًا لنفسه، فلما كان في زمن عثمان احتيج إلى تلك الصحف لاختيار الوجه الذي دعت الحاجة إلى قصر الناس على القراءة به دون غيره - وكتب عثمان بضعة مصاحف وبعث بها إلى الأمصار، لا لتبليغ القرآن، بل لمنع أن يقرأ أحد بخلاف ما فيها.