فَهَلْ مِنْ بَيَانٍ أَشْفَى مِنْ هَذَا أَنَّهُ كَتَبَ بِيَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي؟
أَفَيَجُوزُ لِهَذَا المَرِيسِيِّ أَنْ يَقُولَ: كَتَبَ بِرِزْقِهِ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ على نَفسه؟
وَفِي هَذَا البَابِ أَحَادِيثٌ كَثِيرَةٌ، تَرَكْنَاهَا مَخَافَةَ التَّطْوِيلِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ بَيَانٌ بَيِّنٌ وَدِلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي تَثْبِيتِ يَدَيِ الله - عز وجل - أَنَّهُمَا عَلَى خِلَافِ مَا تَأَوَّلَهُ هَذَا المَرِيسِيُّ الضَّالُّ، الَّذِي خَرَجَ بِتَأْوِيلِهِ هَذَا مِنْ جَمِيع لُغَات العَرَب والعجم.
فليعرض هَذِه الآثار رجلٌ على عَقْلِهِ، هَل يجوز لِعَرَبِيٍّ أَو عَجَمِيّ أَنْ يَتَأَوَّلَ أَنَّهَا أَرْزَاقُهُ، وَحَلَالُهُ، وَحَرَامُهُ؟ وَمَا أَحْسَبُ هَذَا المَرِيسِيَّ إِلَّا وَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهَا تَأْوِيلُ ضَلَالٍ وَدَعْوَى مُحَالٍ، غَيْرَ أَنَّهُ مُكَذِّبٌ الأَصْلَ، مُتَلَطِّفٌ لِتَكْذِيبِهِ بِمُحَالِ التَّأْوِيلِ؛ كَيْلَا يَفْطِنَ لِتَكْذِيبِهِ أَهْلُ الجَهْلِ.
وَلَئِنْ كَانَ أَهْلُ الجَهْلِ فِي غَلَطٍ مِنْ أَمْرِهِ، إِنَّ أَهْلَ العِلْمِ مِنْهُ لَعَلَى يَقِينٍ.
فَلَا يَظُنن المُنْسَلِخُ مِنْ دِينِ الله أَنَّهُ يُغَالِطُ بِتَأْوِيلِهِ هَذَا إِلَّا مَنْ قَدْ أَضَلَّهُ اللهُ، وَجَعَلَ عَلَى قَلْبِهِ وَبَصَرِهِ وَسَمْعِهِ غِشَاوَةً.
ثُمَّ إِنَّا ما عَرَفْنَا لِآدَمَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ابْنًا أَعَقَّ وَلَا أَحْسَدَ مِنْهُ، إِذْ يَنْفِي عَنْهُ أَفْضَلَ فَضَائِلِهِ وَأَشْرَفَ مَنَاقِبِهِ، فَيُسَوِّيهِ فِي ذَلِكَ بِأَخَسِّ خَلْقِ اللهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لآدَمَ فَضِيْلَةٌ أَفْضَلَ مِنْ أَنَّ اللهَ خَلَقَهُ بِيَدِهِ من بَيْنِ خَلَائِقِهِ، فَفَضَّلَهُ بِهَا عَلَى جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالمَلَائِكَةِ، أَلَا تَرَوْنَ مُوسَى حِينَ التَقَى مَعَ آدَمَ فِي المُحَاوَرَةِ احْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَشْرَفِ مَنَاقِبِهِ فَقَالَ: «أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ الله بِيَدِهِ؟» وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ مَخْصُوصَةً لِآدَمَ دُونَ مَنْ سِوَاهُ؛ مَا كَانَ يَخُصُّهُ بِهَا فَضِيلَةً دُونَ نَفْسِهِ؛ إِذْ هُوَ وَآدَمُ فِي خَلْقِ يَدَيِ اللهِ سَوَاءٌ -فِي دَعْوَى المَرِيسِيِّ-؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِآدَمَ ابْنٌ أَعَقُّ مِنْهُ، إِذْ يَنْفِي عَنْهُ