كَتَبَ الفَنَاءَ عَلَيْهَا، وَرَكَّبَ مَا رَكَّبَ مِنْ جَوَارِحِ الخَلْقِ لِلْفَنَاءِ، فَلَا يَحْتَمِلُ نُورَ البَقَاءِ فَتُحْرَقَ بِهِ أَوْ تُدَكَّ، كَمَا دكَّ الجَبَلُ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ؛ رُكِّبَتِ الأَبْصَارُ وَالجَوَارِحُ لِلْبَقَاءِ، فَاحْتَمَلَتِ النّظر إِلَى وَجهه، وَإِلَى سُبْحَاتِهِ وَنُورِ وَجْهِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَحْرِقَ أَحَدًا، كَمَا لَوْ أَنَّ أَجْسَمَ رَجُلٍ وَأَعْظَمَهُ وَأَكْمَلَهُ لَوْ أُلقِيَ فِي الدُّنْيَا فِي تَنُّورٍ مَسْجُورٍ لَصَارَ رَمَادًا فِي سَاعَةٍ، فَهُوَ يَحْتَرِقُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ألفَ عَامٍ وَأَكْثَرَ، وَنَارُهَا أَشَدُّ حَرًّا مِنْ نَارِ الدُّنْيَا سَبْعِينَ ضِعفًا، لَا يَصِيرُ مِنْهَا رَمَادًا، وَلَا يَمُوتُ: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56]؛ لِأَنَّ أَجْسَامَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ تُرَكَّبُ يَوْمَئِذٍ لِلْبَقَاءِ، فَاحْتَمَلَتْ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ مَا لَمْ تَكُنْ تَحْتَمِلُ جُزْءًا مِنْ ألفِ جُزْءٍ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا.
وَكَذَلِكَ أَوْلِيَاءُ اللهِ تَحْتَمِلُ أَبْصَارُهُمُ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ الله يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَوْ قَدْ أَدْرَكَهُمْ شَيْءٌ مِنْ سُبُحَاتِ وَجْهِهِ فِي الدُّنْيَا لَاحْتَرَقُوا، كَمَا قَالَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَلم تَحْتَمِلْهَا أَبْصَارُهُمْ، فَهَذَا تَأْوِيلُ حَدِيثِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ ألفَاظُهُ، لَا مَا تأوَّلتَ لَهُ مِنَ التَّفْسِيرِ المَقْلُوبِ، الَّذِي لَا يَنْقَاسُ لِلَفْظِ الحَدِيثِ إِلَّا أَنْ تَقْلِبَ لَفْظَهُ كَمَا قَلَبْتَ تَفْسِيرَهُ، فَارْبَحِ العَنَاءَ؛ فَإِنَّ ظَاهِرَ ألفَاظِهِ تَشْهَدُ عَلَيْكَ بِالتَّكْذِيبِ بِالتَّوْحِيدِ.
وَسَنَذْكُرُ بَعْضَ مَا ذُكِرَ فِي القُرْآنِ وَفِي الرِّوَايَاتِ مِنْ أَمْرِ الحُجُبِ؛ لِيَعْرِضَهَا عَاقِلٌ عَلَى قَلْبِهِ، هَلْ يَنْقَاسُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى مَا تَأَوَّلْتَ؟
أَوَّلُ ذَلِكَ مَا رَوْيَتَهُ أَيُّهَا المُعَارِضُ عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
(182) حَدَّثَنَاهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِأَرْبَعٍ فَقَالَ: «إِنَّ الله لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ