له من بعد عسر يسرا، فأنا أكتب لا لأعجب الناس بل لأنفعهم، ولا لأسمع منهم أنت أحسنت بل لأجد في نفوسهم أثرا مما كتبت، فلو أن هذه العشرة الملايين التي يحتضنها هذان الجبلان أجمعت أمرها على الإعجاب بي والرضاء عني ثم رأيت من بينها رجلا واحدا ينتفع بما أقول لكان الواحد المستفيد آثر في نفسي من الملايين المعجبين، أتدري لِمَ عجز كتاب هذه الأمة عن إصلاحها؟ لأنهم يظنون أنهم لا يزالون حتى اليوم تلاميذ في المدارس, وأنهم جالسون بين أيدي أساتذة اللغة يتلقون عنهم دروس البيان، فترى الواحد منهم يكتب وهمه المالئ قلبه أن يعجب اللغويين، أو يروق المنشئين، أو يطرب الأدباء، أو يضحك الظرفاء، ولا يدخل في باب أغراضه ومقاصده أن يتفقد المسلك الذي يريد أن يسلكه إلى قلوب الناس الذين يقول: إنه يعظهم أو ينصح لهم أو يهذبهم أو يثقفهم؛ ليعلم كيف ينفذ إلى نفوسهم وكيف يهجم على قلوبهم وكيف يملك ناصية عقولهم, فيعدل بها عن ضلالها إلى هداها، وعن فسادها إلى صلاحها، فمثله كمثل الفارس الكذاب الذي تراه كل يوم حاملا سيفه إلى الجوهري يرصع له قبضته, أو الحداد ليشحذ له حده, أو الصيقل ليجلو به صفحته, ولا تراه يوما في ساحة الحرب ضاربا به.