فهذا الخطّ هو الذي بعدئذ نسب إلى الكوفة لمّا عني أساتذة الكوفة بتحسينه في أوائل الإسلام. أمّا الخطّ الثاني النسخيّ فالظاهر أنّ العرب أخذوه من نصارى النبط المجاورين لجهات الحجاز ومن رهبان مدين ووادي القرى الذين ذكرهم شعراء العرب ويؤيّد ذلك قول بعض الكتبة أنّ واضعي الكتابة العربيّة كانوا من طسم وجديس وقال ابن النديم في الفهرست"ص4" والحاج خليفة في كشف الظنون"3: 145" "كانوا من ملوك مدين" وذكرا رأي من ادّعى أنهم وضعوا الخطّ العربيّ على أسمائهم وهي أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت. فذكرهما لمدين وذكر البلاذري لوادي القرى يؤيّد قولنا"راجع ما ورد في القسم الأوّل عن النصرانيّة فيهما".

وقد وجد العلماء من هذا الخطّ النسخيّ أمثلة عديدة يرتقي عهدها إلى عهد الخطّ الآخر. ومن ثمّ لم يعد يجوز القول كما ورد في كتاب القلقشندي عن الخطّ "المشرق4: 280" بأن ّ"الخطّ الكوفي هو العربي. وأنّ الخطّ النسخيّ وضعه ابن مقلة في القرن الثالث للهجرة" وعلى كلّ حال لا بدّ من الاعتراف بفضل النصارى لتشييع الخطّ في جهات العرب.

وما عدا هذه الشواهد التي تنسب الكتابة إلى قوم النصارى قد ورد في تراجم الشعراء وقصائدهم ما يشير إلى شيوع الكتابة بين النصارى قبل الهجرة. فمن ذلك ما روى صاحب الأغاني"21: 195" وغيره من قدماء الكتبة عن طرفة والمتلّمس وعن الرسالتين اللتين كتبهما عمرو بن هند لعامله المكعبر في البحرين موهماً بأنّه يوصي لهما بخير وهو يضمر لهما الشرّ. ففضّ المتلمّس صحيفته وأعطاها غلاماً عبادياً من غلمان الحيرة فقرأها له:"باسمك اللهمّ من عمرو بن هند إلى المكعبر أما بعد إذا جاءك كتابي هذا من المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حيّاً فلمّا عرف مضمونها فرّ هارباً. أمّا طرفة فلم يشأ أن يقف على محتويات صحيفته فمات قتلاً وضرب المثل بصحيفة المتلمّس للمتهوّر في التهلكة. وفي هذا دليل على أنّ العباديين هم قوم من النصارى في جهات الحيرة كانوا يعرفون الكتابة ويعلّمونها غلمانهم. وفي الأغاني"5: 191" أنّ المرقّش الأكبر وأخاه حرمل"دفعهما أبوهما إلى نصرانيّ من أهل الحيرة فعلمهما الخطّ".

ولنا دليل آخر في المعلقات التي زعموا أنّها كتبت على الحرير وعلّقت على أستار الكعبة وأخصّ المعلّقات لشعراء من قبائل نصرانيّة كتغلب وبكر وكندة ففي كتابتها برهان على شيوع فنّ الخطّ بين النصارى.

ومن الأدلّة على ذلك ما جاء في شعراء النصرانيّة من الإشارة إلى الكتابة كقول حاتم الطائيّ"الأغاني 7: 132":

أتعرف آثار الديار توهُّماً ... كخطّك في رقٍّ كتاباً منمنما

وقال المرار بن منقذ يصف أخربة دار:

وترى منها رسوماً قد علت ... مثل خطّ اللام في وحي الزُّبُرْ

ومثلهما لبيد حيث قال:

وجلى السيولَ عن الطلال كأنَّها ... زُبُرٌ تحدُّ متونها أقلامها

وسبقهم امرؤ القيس فشبّه طلل الدار بوحي الزبور في عسيبٍ يماني:

لمن طللٌ أبصرتهُ فشجاني ... كخطّ زبور في عسيبٍ يماني

وقال أيضاً مخصّصاً زبور الرهبان:

قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفانِ ... ورسمٍ عفت آياتهُ منذ أزمانِ

أتت حججٌ بعدي عليها فأصبحت ... كخطّ زبورٍ في مصاحف رهبانِ

وقد افتخر أميّة بن أبي السلط بقومه إياد لعلمهم بالكتابة. فقال:

قومي إيادٌ أنّهمُ أممُ ... او لو أقاموا فتهزل النّعمُ

قوم لهم ساحةُ العراق إذا ... ساروا جميعاً والقطّ والقلمُ

القطّ هو الكتاب. وقد بيّنا سابقاً أنّ بني إياد منأوّل القبائل المتنصرة ومنهم كان لقيط الإيادي"راجع القسم الأوّل ص75" الذي أرسل لقومه صحيفة ينذرهم فيها بما يتهدّدهم من الأخطار من جانب كسرى أوّلها:

سلام في الصحيفة من لقيط ... إلى من بالجزيرة من إياد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015