ويؤيد قولنا هذا أن كثيراً من القبائل العربية المنتصرة كانت تحضر ما يقيمه في وسطها من الرتب الدينية الأساقفة والكهنة خصوصاً في جهات الشمال والشمال الغربي حيث توفرت الكنائس النصرانية الكلدانية والسريانية وفي جهات الشام شرقي دمشق وفي نواحي الأردن حيث انتشرت اليونانية وأقيمت الطقوس الكنسية في تلك اللغة. أما القبائل المتنقلة فكان يرافقها أساقفة أو كهنة يدعون بأساقفة المضارب كما شرحنا ذلك كله في القسم التاريخي. فلا غرو أن العرب الذين كانوا يعاينون تلك المحافل الدينية ويسمعون ألحانها تأثروا منها فاستفزتهم قريحهم إلى أن يجروا عليها نوعاً سواء كان في غنائهم أو في شعرهم.

ولنا في ما رويناه عن سوزومان المؤرخ شاهد آخر على رأينا إذ ينسب إلى بني غسان تلك الأغاني العربية التي كانوا ينشدونها بعد محاربتهم للرومان. وهو في الفصل عينه يذكر تنصرهم وفي ذلك دليل على أصل كلامهم الموزون وعلاقته مع دينهم النصراني سواء كانت تلك الأغاني أسجاعاً مرصوفة أو أراجيز موزونة

2 في ترقي الشعر العربي وتقصيد القصائد

كان بحر كأساس أول للشعر العربي. على أن تفاعيله بما فيها من الجوازات الشعرية العديدة ما لبثت أن برزت على صور شتى تفنن بها الشعراء بتركيب الأسباب والأوتاد فأخرجوها على أوزان مختلفة جروا عليها بفطرتهم دون أن يدونوها بكتاب مكتوب فبقيت سماعية تقليدية إلى أن قام الخليل في القرن الثاني للهجرة وأمعن النظر في صورها وأوزانها واستخرج أعاريضها وأثبتها على قواعد صحيحة. وإلى ذلك أشار ابن الرشيق في العمدة (ص 5) بقوله في أصل الشعر العربي: "كان الكلام كله منثوراً فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها. وطيب أعراقها. وذكر أيامها الصالحة. وأوطانها النازحة. وفرسانها الانجاد. وسمحائها الأجواد. لتهز نفوسها إلى الكرم. وتدل أبناءها على حسن الشيم. فتو هموا أعاريض جعلوها موازين الكلام. فلما تم لهم وزنه سموه شعراً لأنهم قد شعروا به أي فطنوا له".

وهنا لا نتردد في القول بأن الذين قاموا بذلك فوضعوا هذه الأوزان إنما كانوا من العرب المتنصرين من قبائل غلبت عليها النصرانية بشهادة قدماء المؤرخين لاسيما المسلمين كقبائل ربيعة التي منها بكر وتغلب ويشكر وحنيفة وكقبائل قضاعة ومنها كلب وتنوخ وكقبائل اليمن ومنها كندة ولخم وغسان وبعض قبائل قيس كذبيان وعبس. نحيل القراء لإثبات نصرانيتهم إلى قسمنا الأول في تاريخ النصرانية في عهد الجاهلية.

وعلى رأينا أن شعراء الجاهلية الأولين إذ اكتحلوا بنور النصرانية واحتكوا بأهلها من الأمم المجاورة كالسريان واليونان والحبش ودخلوا على ملوكها العرب الغساسنة والمناذرة وبني الحارث وكنا تمدن اليونان والروم والفرس غلب عليهم تأدبوا بآدابهم وجاروا أولئك الطوائف في بلاغتهم وتأنقوا بالنظم على مثالهم.

وساعد الشعراء في تقصيد قصائدهم ما جرى في القرن السادس للمسيح من الوقائع والحروب التي اشتهر فيها العرب سواء كانت تلك الحروب أهلية بين القبائل كحرب البسوس أو جرت لهم مع الأجانب كحرب ذي قار بين العرب والفرس. فإن الشعراء وجدوا فيها من استفز قريحتهم وهيج احساساتهم فوصفوها بقصائدهم وللنصارى منهم فيها حظ وفي كما سترى.

3 الشعر النصراني

رأيت في ما سبق أن النهضة الشعرية كانت خصوصاً في القرن السادس للمسيح أي القرن السابق لظهور الإسلام. وفي تأخر تلك النهضة سر غامض ارتاب في فكه الباحثون عن أخبار الجاهلية. فهذه أمة عظيمة منتشرة في بلاد تكاد مساحتها تساوي مساحة أوربة على أطرافها الممالك الوطنية ذات الجاه والشرف والسلطان سبقت الإسلام بعدة قرون لا ينقصها شيء من أسباب الحضارة والعمران بينها أرباب العقول الراجحة والأذهان المتقدة لسانها من أغنى الألسنة وأشرفها وأقدرها على التعبير عن كل العواطف البشرية وهي مع ذلك لم تنتج شاعراً مفلقاً قبل أوائل القرن السادس وذلك بإقرار أقدم الكتبة من العرب. فكيف يا ترى يمكن تعليل ذلك الخمول؟

طور بواسطة نورين ميديا © 2015