إن انحدرت من فلسطين جنوباً فسرت من غزة على سيف البحر ماراً بالعريش حتى ترعة سويس ثم مددت من هاتين النقطتين خطين متوازيين إلى الجنوب انبسطت أمامك البراري الواسعة كبرية سين وبرية سور وبلاد الشراة والنجب ثم يتشكل لك شبه مثلث مخروط رأساه الأعليان عند خليج سويس غرباً وخليج عقبة شرقاً والرأس الثالث يدخل في البحر ويعرف برأس محمد. فهذا المثلث الكبير هو شبه جزيرة سينا فيه بادية التيه التي تنقل فيها بنو إسرائيل سنين عديدة وبرية فاران. وهناك سلسلة جبال شاهقة كجبل غرندل وجبل سرابيط الخادم وجبل التيه وخصوصاً طور سينا أو حوريب وجبل موسى وجبل سربال وجبل كاترين مع ما فيها من الأودية (انظر في المشرق 1068:9 خارطة طور سينا) فتلك البلاد كانت شمالاً في أيام بني إسرائيل مواطن للأدوميين وللعمالقة وللمدنيين وقد كثرت فيها بعد ذلك قبائل العرب من بني اسماعيل والنبطيين فاستولت عليها واقتسمتها وكانت تتجول فيها على حسب حاجاتها كما يتجوَّل الملك في مملكته والسيد في أملاكه دون أن تركز في محل مخصوص ألا أهل المدر منها فإنها وجدت في بعض بقعها وواحاتها ما يقوم بلوزامها ومناجع مواشيها فاستوطنتها.

فهذه البلاد الواسعة قدم إليها تلامذة المسيح ليدعوا الناس إلى دين سيدهم.

وممن ذكرهم القدماء الرسول برتلماوس فقالوا عنه أنه "تلمذ بلاد العرب والنبط" يريدون جنوبي الجزيرة وهذه الجهات خصوصاً. وجاء في تاريخ القبط للمقريزي (Wetzer: Macrizii Historia Coptorum, p. 14) أن متياس (وهو الرسول الذي أقيم بدلاً من يهوذا الاسخريوطي) سار إلى بلاد الشراة (1 فبشَّر فيها بالمسيح وكأن النصرانية وجدت في تلك الأنحاء ملجأ في قرون الميلاد الأولى نزعت إليه ولاذت به رغبةً في التنسك والزهد أو فراراً من اضطهادات الوثنيين فكان نصارى مصر والشام يرون في شبه جزيرة سينا مقاماً آمناً لا يستطيع العالم أن يكدر فيه صفاء حياتهم الملائكية ولا يقدر عداؤهم القبض عليهم فكانوا يسكنون في أوديتها ووهادها أو يرقون جبالها ليعيشوا فيها عيشة سماوية في مناجاة الله.

ولنا على ذلك عدة شواهد ترتقي إلى أواسط القرن الثالث للميلاد منها رسالة للقديس ديونيسيوس أسقف الإسكندرية كتبها إلى فابيوس أسقف أنطاكية وصف فيها المحن والبلايا المتعددة التي نالت نصارى مصر بسبب اضطهادات الحنفاء وعبدة الأوثان لاسيما في عهد القيصر دقيوس فمما قاله (2: أن أسقف نيلوس هرب إلى جبال العرب مع عدد كبير من النصارى فبعضهم ماتوا وبعضهم استعبدهم العربان إلى أن افتداهم النصارى بالمال الكثير وبقي غيرهم منقطعين إلى العيشة النسكية. وقد أثبت البولنديون في أعمال القديسين وبعض مؤرخي الكنيسة أن العيشة الرهبانية في شبه جزيرة سينا وما وراء بحر القلزم سبقت عهد القيصر ديوقطيانوس.

وجاء في أعمال القديسين الشهيدين غلاقتيوس وامرأته إبيتسام المولودين في حمص (3 أنهما نذرا الله عفتهما في الزواج ورحلا إلى طور سينا حيث وجدا عشرة من النساك كانوا يعيشون هناك عيشة الأبرار فأخذ العرسان عنهم آداب السيرة النسكية وعاشا متفردين لأعمال البر غلاقتيون بين الرجال وايبستام مع النساء حتى بلغ خبر أولئك السياح والي الرومان سنة 250 فطلبهما وقتلهما شهيدين.

ومع ما كان يلقى أولئك السياح من أنواع المشقات من القبائل الوثنية التي تسكن جهات الطور والبراري المجاورة لأرض مصر لم يلبث أن يؤثر في بعضها مثل أولئك الأبرار حتى ارتدَّ منهم قوم إلى الإيمان ونظن أن القديس ديونيسيوس الإسكندري يشير إلى هؤلاء المتنرين في كتابه إلى البابا القديس أسطفانوس الأول نحو سنة 255 حيث يبشره بموافقة الكنائس الشرقية على تعليمه بخصوص معمودية الهراطقة قال (1: "وقد ترى رأيكم كل الأقاليم السورية مع بلاد العرب التي تقومون من حين إلى آخر بضرورياتها والتي وجهتم إليها رسائلكم الآن". فقوله "بلاد العرب" يدل خصوصاً على ما جاور منها مصر كما يظهر من القرائن. وقوله "تقومون بضرورياتها" دليل حي على عناية الكرسي الرسولي في القرون الأولى بكل كنائس العالم حتى أقصاها لمساعدتها في حاجاتها الروحية والمادية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015