وقد رددنا في المشرق (556:10) على بعض اعتراضات بها على نصرانية غسان مراسل المقتبس فبينا بطلانها. كزعمه بأن الحارث الأكبر ابن أبي شمر الغساني الملقب بالأعرج كان وثنياً لأنه أهدى سيفيه رسوباً ومخذماً لبيت ضم كما روى الطبري (1706:1) فأثبتنا نصرانية الحارث بشواهد مؤرخين معاصرين للحارث من يونان ولاتين وسريان وقد ورد اسمه في الكتابات القديمة ملقباً بالمحب للمسيح كما رأيت وإن كان يعقوبي النحلة كما ذكر هؤلاء الكتبة. أما تقدمته سيفين لبيت صنم فهي رواية ضعيفة لا يتفق فيها الرواة (اطلب ياقوت 453:4) ما لم يقل أن الطبري جعل بيت صنم أحد معابد النصارى أو يقال أن الحارث النصراني أتي بفعله عملاً ذميماً فنسي شرائع النصرانية أو تجاهل بها.

واعترض الكاتب البغدادي على نصرانية عرب غسان بشهادة ياقوت الحموي (652:4) بأن غسان كانت تعبد مناة وذكر دعاءها عند وقوفها عند صنمها.

فكان جوابنا أننا لم ننكر كون غسان دانت مدة بالوثنية لكنها لما تنصرت نبذت عبادة مناة وبقية الأصنام منذ القرن الرابع للمسيح كما ثبت من الشواهد التي ذكرناها. هذا فضلاً عن أن الدعاء الذي ذكره عن تاريخ اليعقوبي (297:1) : "لبيك رب غسان راجلها وفارسها" لا يختص بصنم ويجوز التوسل به.

وكان آخر ما اعترض علينا الكاتب البغدادي قول اليعقوبي إلى إله الحق (298:1) بعد ذكر نصرانية غسان أن "قوماً منهم تهودوا" فكان جوابنا عليه أن الكتبة العرب إجمالاً (ألا اليعقوبي) ليس فقط لم يذكروا تهود غسان بل نفوا اليهودية عنهم. وعنهم نقل صاحب الفضل شكري أفندي الألوسي البغدادي في كتاب بلوغ الأدب في أحوال العرب (26:2) حيث روى عن تبع الأصغر الحميري أنه لما تهود دعا إلى اليهودية غسان فابوا معتذرين بدخولهم إلى النصرانية.

قال: "وسار تبع إلى الشام وملوكها غسان فأعطته المقادة واعتذروا من دخولهم إلى النصرانية".

وأضفنا إلى قولنا هذا جواباً آخر فقلنا أنه لمحتمل أيضاً أن اليعقوبي نسب اليهودية إلى قوم من غسان لانتشار بعض الشيع بينهم كشيعة الأبيونيين (صلى الله عليه وسلمbionites) والنزاريين (Nazareens) وغيرهما كانت من بقايا اليهود الأولين الذين تنصروا وحفظوا شيئاً من نواميس موسى وهم الذين خرجوا بأمر الرب من أورشليم قبل حصارها في عهد طيطس فعبروا بلاد العرب وعرفوا باليهود المتنصرين (Judes - chretienes) .

الباب الثالث

النصرانية بين عرب الغور والسلط والبقاء

إن نهر الأردن المعروف بالشريعة بعد خروجه من أغوار حرمون في جهات بانياس وجريه جنوباً فتتكون منه بحيرة الحولة يصب في بحر الجليل ثم يخترقه فيسيل متحدراً إلى الأعماق بين ضفتين ترتفعان شرقاً وغرباً حتى يبلغ تحدره نحو 300 متر تحت سطح بحر الشام وينتهي إلى بحر لوط فتلك الناحية التي يقطعها الأردن تدعى بالغور. وليست تلك الجهة مسيلاً للنهر فقط بل تتسع ضفافها وترتفع بالتدريج في سعة يقدر معدلها نحو 10 كيلومترات فيها البقع المخصبة والنواحي العامرة والعيون المتدفقة وإن لحظت عبر الأردن وجحدت وراء ضفافه شرقاً بلاداً واسعة تعلوها الجبال الشاهقة كجبل عجلون وجبل جلعاد وجبل نبو إلى جبال مؤاب بينها المشارف الفسيحة والأودية الكثيرة الخبرات والمناع الطيبة كالسلط والبقا. وصحاري مؤاب تتصل شمالاً ببادية الشام وجنوباً بنواحي كرك وجهات النبط وشبه جزيرة سينا فهناك سكنت شعوب كبيرة كالعمونيين والمؤابيين والمدينيين. وكانت قبائل العرب البادية والحاضرة ممتزجة معها تتنقل في جهاتها من أريافها إلى صرودها طلباً للمراعي أو تسكن في المدر فتعنى بالفلاحة.

فالنصرانية وجدت لها في تلك الأقطار كلها بين أهلها المطبوعين على شظف العيش وسذاجة الأخلاق ومجانبة الترفه والبذخ تربة صالحة ما كاد يقع في ظهرانيها الزرع الجيد حتى نما أي نمو. وكان حلول المسيحيين الأولين في تلك الجهات قليلاً بعد صعود الرب ولاسيما لما ثار الاضطهاد الأول على تلاميذ الرسل (أعمال: 1:8) ولما جاء الرومان لمحاصرة أورشليم إذ خرجوا إلى عبر الأردن بوحي من الرب فاستطنوا أنحاءه كما أخبر أوسابيوس. ولاشك أنه نال العرب قسم من تلك النعم الروحية التي أفاضها الله على سكان تلك الأصقاع فدانوا بدين المهاجرين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015