النحو الوافي (صفحة 1242)

كلام سابق، وإبطال ما يرد على النفس منها؛ "فهو كالاستدراك المستفاد من كلمة: "لكن""، ومن أمثلته قولهم: "هفا الصديق فاحتملت هفوته؛ على أن احتمالها مر أليم، وجفا، فقبلت جفوته، على أن الرضا بها كالرضا بالطعنة المسددة؛ كل نفس لها كارهة ... ، فقد بين المتكلم أنه احتمل الهفوة، وقد يوحي هذا في النفس أن احتمالها سهل، وأنه راض به الاحتمال، فأزال هذا الاحتمال بما ذكره من أن احتمالها مر وأليم، كذلك بين أنه قبل جفوة صديقه. وهذا قد يشعر بأن قبولها كان عن رضا وارتياح؛ فأزال هذا الوهم، نافيًا له؛ مبينًا أن الرضا به بغيض إلى النفس بغض الطعنة القاتلة ... وكانت وسيلته للإبانة هي كلمة: "علي" التي بمنزلة: "لكن".

ومن ذلك قولهم: "الإسراف كالشح؛ كلاهما داء وبيل، يخشى عواقبه اللبيب، على أن داء الشح أخف ضررًا، وأهون خطرًا من داء الإسراف ... "، فقد بين أن كلاهما داء سيئ العاقبة، وهذا يوحي إلى النفس أنهما في الشر سواء، ومنزلتهما من الضرر واحدة، فأزال هذا المعنى الفرعي المتوهم بكلمة: "على"، وما بعدها؛ فهي بمنزلة: "لكن"، التي تجيء أول الجملة لإبطال المعاني الفرعية الناشئة مما قبلها.

ومن الأمثلة أيضًا ما قاله الشاعر في أمر قربه أو بعده عن ديار أخلائه، وأنه يفيد أو لا يفيد:

بكل تداوينا؛ فلم يشق ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعد

على أن قرب الدار ليس بنافع ... إذا كان من تهواه ليس بذي ود

فقد بين أولًا أن تداوي بالقرب وبالبعد فلم يفده واحد منهما، وعدم الإفادة بعد التجربة يوقع في الوهم أنهما سيان من كل الوجوه، لكنه أبطل هذا التوهم بتصريحه بعد ذلك حيث يقول: "على أن قرب الدار خير من البعد"، فهذه الجملة تبطل ما سبق، وتوحي بمعنى جديد؛ هو: أن القرب مطلقًا خير من البعد، ثم عاد فأبطل هذا المعنى الذي أوحي به الوهم بجملة جديدة؛ هي: قرب الدار ليس بنافع" ... وكانت أداة الإضراب والإبطال هي كلمة: "على".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015