الظاهرة التي عمّت فأعمت، وهي ظاهرة الاختصار والتعمق فيه التي أشرنا في العصر السابق إلى مضارها الجسيمة، حتى أفضى الأمر إلى أن أصبحت العلوم في حالة من الغموض والإبهام تصد عنها كثيراً من الطلاب. وهذا الأمر إن لم يكن أخرها كثيراً، فقد عاقها عن التقدم والانتشار طوال المدة التي بقيت فيها قيد الإنشاء والإعادة.

العلوم الشرعية:

ويقال بالجملة أن العلوم الشرعية كالفقه والحديث والتفسير قد كانت منتشرة بكثرة على نسبة ترتيبها هذا، الذي ذكرناه؛ وإنما الذي ظهرت عليه آثار التحول هو الفقه، فالغالب أن كتبه التي كانت مستعملة في العصر المريني قد اطرحت الآن ولم يبق منها إلا القليل، وأخذت كتبٌ أُخر مختصرة عوضاً عنها وظهر نشاط كثير وتنافس في شرح هذه المختصرات والتعليق عليها.

وإن ننس لا ننس ما جد في هذا العصر من كثرة الإقبال على علوم القراءة وشدة العناية بها، حتى لقد تخصص بها علماء كثيرون لا يزاولون غيرها من العلوم، كما شارك فيها سائر العلماء، بل كان وصف العالمية لا يكمل إلا بها. ويمكننا أن نقول إن هذا كان عصرها الذهبي في إفريقية كلها، الذي بلغت فيه إلى أوج الكمال. وحسبك دليلاً أن وقف القرآن الذي وقع الإجماع عليه وجرى العمل به في المغرب منذ ذلك الوقت إلى الآن، إنما وضع في هذا العصر وكان واضعه هو الأستاذ الصماتي.

أما الكلام فقد قامت له أيضاً دولته، إذ وجد ما حفز الهمم للاشتغال به، وهو تلك المناظرة العنيفة التي قامت بين الشيخين الخرُّوبي واليسيثني أولاً، وبين هذا الثاني والشيخ الهبطي ثانياً، في مسألة الهيللة، هل الحق سبحانه وتعالى مما يدخل في النفي بلا، وهل تنتفي بها ألوهية الصنم وغيره مما عُبد من دونه باطلاً أم لا? وقد استمرت هذه المناظرة زماناً طويلاً وثار بسببها شرّ كبير بين العلماء حتى تدخل السلطان نفسه فيها ولم يُجدِ ذلك شيئاً. وبقيت المسألة على حالها إلى أن تأدّت إلى العصر العلوي، فلم تعدم من يروجها من الطلبة. ثم تصدى لها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015