الهمة، رفيع القدر، عالماً متفنناً، أديباً أريحياً سياسياً محنكاً، فذلل الصعاب وسنى العقاب، وتغلب بطول أمله وحسن مصابرته للأمور على جميع المشاق، وكان يقول: «ينبغي للملك أن يكون طويل الأمل، فإن طول الأمل لا يحسن إلا منه، لأن الرعية تصلح به» فمهد البلاد وأخضع العباد ودخل فاس سنة? 5? وأجلى منها آخر ملوك بني وطاس. ثم قضى عليه بعد ذلك وعلى دولته فصفا له ملك المغرب من أقصاه إلى أقصاه؛ فقعد قواعده وشاد مبانيه، وأحيي مراسم السلطنة الدارسة، ومعالمها الطامسة، وكانت سيرته وسياسته كلها مثال الحزم والضبط ودليل الحكمة والاقتدار.
ثم تلاه ابنه عبدالله الغالب فاقتفى أثره في حسن السيرة، وكان محبوباً من الشعب بجميع طبقاته. ونشطت الحركة الاقتصادية في زمانه، وكثر البنيان، واستبحر العمران، وكانت أيامه كلها أيام دعة وأمن ورخاء وعافية، ولما توفي قام على العرش ولده محمد، وكان الغالب أخوان تغرباً بالجزائر مدة توليته الملك خوفاً على أنفسهما منه، وهما الغازي أبو مروان عبد الملك المعتصم بالله، وأبو العباس أحمد المنصور الذهبي. فحين سمعا بوفاة أخيهما واستيلاء ابنه على الملك، وانتزاعه تراث أبيها من أيديها، لم يرضيا بالدنية، ووثبا وثبة الأسد الهصور؛ فلم يهدأ لهما بال حتى دبرا بينهما خطة الدفاع عن حقها المغتصب؛ فسافر الغازي أبو مروان إلى القسطنطينية العظمى ومثل بين يدي السلطان سليم الثاني وطلب إليه أن يمده بجيش يدخل معه المغرب فينتزع الملك من ابن أخيه، فلم يجبه إلى طلبه لاشتغاله بأمر تونس التي كان الأسبان يهاجمونها في ذلك الحين. فبقي هناك حتى جهز السلطان حملة سنان باشا التي انتزعت تونس من أيدي الأسبان فصحبها أبو مروان وأبلى فيها بلاء حسناً، ثم كان هو أول من أبلغ بشارة الفتح إلى السلطان فجازاه على ذلك بأن أمر كتيبة من الجيش التركي الجزائري يبلغ عددها أربعة آلاف رجل، فدخلت معه إلى المغرب بعد أن اشترطت عليه أن يعطيها عشرة آلاف عن كل مرحلة.
وما إن شارف فاس حتى خرج إليه ابن أخيه، لكن جيش هذا انضم إلى عمه. وكان الغازي يكاتب القواد والوزراء أيام مقامه بالجزائر ويعدهم ويمنيهم. فلما جاء كانوا كلهم على هواه، فانقادوا إليه، وهكذا رجع الملك إلى نصابه