ولكن منشأ النبوغ لم يكن هذا الذي أمعنا إليه من رعاية الموحدين للأدب وتنشيطهم لأهله فقط، وإنما هو متولد من جملة أسباب أخرى، منها النفس على الأندلسيين الذين كانوا قد طلعوا في سماء الأدب بدورة ساطعة، ونجوماً لامعة، وكانوا يغلبون أهل البلاد من المغاربة عند المفاخرة ويطاولونهم حين المنافرة، وتعد المناظرة التي وقعت مجلس والي سبتة الأمير أبي يحيى بن أبي زكرياء في هذا الصدد بين أبي الوليد الشقندي، وأبي يحيى بن المعلم الطنجي من أحسن الأمثلة على ذلك، وقد أمر الأمير كلاً من الأديب الأندلسي والأديب المغربي بكتابة رسالة في تفضيل قطره، غير أن رسالة المغربي لم تحفظ. ومن هذا يعلم أن الخصومة بين أدباء العدوتين، كانت لا تنقطع، والأندلسيون بالطبع كانوا يحجون جيرانهم بما يعدون من نبغاهم الكثيرين. وهذا وحده كاف للمحجوج في الانقطاع إلى الطلب والعكوف على التحصيل. ومنها الطماح إلى الخدمة في دواوين الحكومة وشغل المناصب العالية التي كان أعلاها يومئذ منصب الوزير، وهو في الحقيقة رئيس الكتاب، ونرى من أبناء مراكش البررة من وضع هذه الغاية نصب عينيه، وجهد في الوصول إليها فيما البث أن حصلها بحزمه وعزمه، وذلك هو الوزير أبو جعفر بن عطية. على أن ما يرجح بهذه الأسباب كلها هو عموم الحاجة إلى التثقيف والتهذيب، وقد شعر الناس بهذه الحاجة منذ قيام عبد الله بن ياسين بحركته الإصلاحية، ثم زاد شعورهم بها من حين الانقلاب الذي قام به المهدي بن تومرت. فنتج عن ذلك كله أن تقدمت الحركة العامية إلى الأمام، واتجهت النهضة الأدبية اتجاهاً جديداً يرضي الجماعة الذين كانوا لا يفتئون يناظرون خصومهم من أهل الأندلس في موجبات الفخار.

وعلى ذلك فلم تكن الآداب المغربية صورة طبق الأصل للآداب الأندلسية، كما يظنه البعض بل كانت قائمة بنفسها، تعبر عن شعور أهلها ولا تتأثر بالأندلس إلا كما تتأثر بالشام والعراق. فهذا ميمون الخطابي لا تجد من تقارنه في متانة أسلوبه وبلاغة معناه، وعنايته بالحكم الفلسفية إلا المتنبي. وهذا أبو العباس الجراوي لا تشبهه إلا بأبي تمام في اهتمامه باللفظ قبل المعنى، ثم إغرابه في بعض الأحيان حتى تختلف فيه الظنون، ولم يقصر وجه الشبه بينها على هذا الحد فيظهر أن شاعرنا كان يتتبع آثار أبي تمام في كل شيء، حتى ألف حماسته فانتشرت بالمغرب وأغنت عن حماسة أبي تمام.

أما الأدب الأندلسي فنجد أثره واضحاً كما نبه عليه المراكشي في ابن حبوس الفاسي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015