الباطل فيدمغه، وإنهم لسائرون عند الحديبية إذ بركت راحلة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأخذ أصحابه يثيرونها إلى جهة الحرم فلا تثور، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء، أي حرنت الناقة، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل". يعني أن الله الذي اعتقل الفيل ومنع أصحابه من دخول مكة محاربين هو الذي اعتقل هذه الناقة ومنع جيش المسلمين من دخولها الآن عنوة، وهكذا أيقن أن الله تعالى لم يأذن لهم في هذا العام بدخول مكة مقاتلين، لا بادئين ولامكافئين. وزجر الناقة فثارت إلى ناحية أخرى فنزل بأصحابه في أقصى الحديبية، وعدل بهم عن متابعة السير؛ امتثالًا لهذه الإشارة الإلهية التي لا يعلم حكمتها، وأخذ يسعى لدخول مكة من طريق الصلح مع قريش قائلًا: "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها" 1 ولكن قريشًا أبت أن يدخلها في هذا العام لا محاربًا ولا مسالمًا، وأملت عليه شروطًا قاسية بأن يرجع من عامه، وأن يرد كل رجل يجيئه من مكة مسلمًا، وألا ترد هي أحدًا يجيئها من المدينة تاركًا لدينه، فقبل تلك الشروط التي لم يكن ليمليها مثل قريش في ضعفها على مثل المؤمنين في قوتهم، وأمر أصحابه بالتحلل من عمرتهم وبالعودة من حيث جاءوا، فلا تسل عما كان لهذا الصلح من الوقع السيئ في نفوس المسلمين، حتى إنهم لما جعلوا يحلقون بعضهم لبعض كاد يقتل بعضهم بعضًا ذهولًا وغمًّا، وكادت تزيغ قلوب فريق من كبار الصحابة، فأخذوا يتساءلون فيما بينهم، ويراجعونه هو نفسه قائلين: لِمَ نعطي الدنية في ديننا؟ وهكذا كاد الجيش يتمرد على أمر قائده ويفلت حبله من يده، أفلم يكن من الطبيعي إذ ذاك لو كان هذا القائد هو الذي وضع هذه الخطة بنفسه أو اشترك في وضعها أو وقف على أسرارها أن يبين لكبار أصحابه حكمة هذه التصرفات التي فوق العقول، حتى يطفئ نار الفتنة قبل أن يتطاير شررها؟ ولكن انظر كيف كان جوابه حين راجعه