ولما كان «الجن» ، وهو جمهرة هذه المخلوقات قد خفي عن النظر، ولا يبصره الناس، أفادت العربية من هذه المادة، مواد كثيرة، تدلّ جميعها على الخفاء والتستّر، فجاء الفعل «جن» بمعنى أخفى وستر، ومن أجل ذلك قيل: جنّ عليه الليل، أي: أخفاه وستره.
ومن هذا الأمر، قيل للمخلوق بعد النطفة والمضغة والعلقة في بطن الأم، «جنينا» ، وذلك لخفائه أيضا.
ومن هذا قيل للقلب «جنان» بفتح الجيم، لأنه مستور.
وقيل: للدّرع، يستر به المحارب صدره، جنّة ومجنّ.
ثم اتسع الأمر أكثر من ذلك، فقيل لفاقد العقل «مجنون» ، أو به جنون أو جنّة، وذلك من تصوّر العرب أن «الجنّ» أغوته وأفقدته العقل.
والفعل مبنيّ للمفعول «جنّ» .
وبعد، فهذه المادة وجدت في غير العربية من اللغات السامية ولكن تلك اللغات، لم تتصرف في هذه المادة على النحو البديع، الذي ورد في العربية، وهذا شيء من عبقرية هذه اللغة.
15- وقال تعالى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ [الآية 72] .
وقرئ: خراجا فخراج، وخرجا فخرج ...
والخرج ما يخرجه الرجل إلى الإمام من زكاة الأرض، وإلى كلّ عامل من أجرته وجعله.
وقيل: الخرج ما تبرّعت به، والخراج ما لزمك أداؤه.
والوجه أن الخرج أخصّ من الخراج، كقولك: خراج القرية، وخرج الكردة، وزيادة اللفظ لزيادة المعنى، ولذلك حسنت قراءة من قرأ:
«خرجا فخراج ربك» (?) .
أقول: وهذا شيء من تصرّف المعربين بمادة هذه اللغة فقد أفادوا من مادة «خرج» الدالة على الخروج ضد الدخول، في وضع هذه المصطلحات الفنية.
16- وقال تعالى: