(3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ، وقد شاءت الإرادة الإلهية أن تكون هذه الآيات الثلاث مسبوقة بتوكيد إلهى بأن هذا الكلام منزل من عند الله، وذلك فى قوله تعالى: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. (?)
ولتمكين هذه الحقائق فى أسماع كفار قريش، المعروفة بالفصاحة وذلك بشهادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قال له أبو بكر الصديق متسائلا: ما رأينا الذى هو أفصح منك يا رسول الله!! فكانت إجابة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على تساؤل أبى بكر: «لأنى ولدت فى قريش وربيت فى بنى سعد» والمعنى النبوى: أن كلا من قريش وبنى سعد أفصح القبائل وكانت نشأة رسول الله فيهما طفلا وصبيا فى الأولى وشابا ويافعا ثم كهلا فى الثانية، ومن هنا كان وصف القرآن فى الآية الكريمة قُرْآناً عَرَبِيًّا حجة على قريش وتحديا غير مباشر لفصحائهم بخاصة، ولجمهرتهم بعامة.
ويتكرر فى الكتاب العزيز التوصيف الإلهى للقرآن الكريم بأنه منزل بالعربية فى قول الله جل وعز: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (?) وقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (?) وقد استهلت سورة الزخرف التى وردت فيها هذه الآية بقسم عظيم هو قوله تعالى: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ ثم كانت الآية التالية: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ والآيتان الأخيرتان: آية يوسف وآية الزخرف متشابهتان شكلا وصوغا، متباينتان هدفا وغرضا، فآية يوسف إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فيها تحدّ غير مباشر لكفار قريش، وأما آية الزخرف فهى إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ولفظ جعلناه يحمل تحديا مباشرا لمنكرى أن الكتاب
العزيز منزل من عند الله رغم القسم الإلهى ب الْكِتابِ الْمُبِينِ.
أما وقد استبد المخاطبون من العرب بفساد الرأى وقبح الإنكار فقد تحداهم منزل الكتاب- سبحانه- أن يعارضوه بما يماثله بلاغة أو يعدله حكمة وبيانا، فنزل قوله عز وجل: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. (?)
فلم يستجيبوا بطبيعة الحال، ليس عنادا وعصبية هذه المرة، ولكن عجزا وقصورا وخذلانا، فيعطيهم منزل الكتاب العلىّ الكبير مزيدا من التيسير بعد أن يعطيهم مزيدا من التأكيد على أن الكتاب كتابه، وأن الكلام