الثالث: ما لم يصرح فيه بنزول الآيات فور حدوث السبب أو بتراخى هذا النزول، فهو يحتمل الأمرين معا.
ومثال ذلك: ما ورد فى شأن نزول قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً الفتح/ 24.
فقد أخرج مسلم (?) عن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين، يريدون غرّة النبى صلّى الله عليه وسلم، فأخذهم سلما فاستحياهم، فأنزل الله عز وجل:
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً».
فليس فى لفظ الحديث ما يدل على فورية النزول أو تراخيه، ولكنه على كل حال تم بعد وقوع السبب، هذا هو الشأن فيما نزل من آيات القرآن الكريم على سبب: أن يتقدم السبب على ما ينزل فيه من الآيات.
ولكن الزركشى رحمه الله تعالى ذكر أنه:
قد يتقدم نزول الآيات على ما نزلت فى شأنه، وذكر أمثلة لذلك فقال: «واعلم أنه قد يكون النزول سابقا على الحكم» وهذا كقوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى الأعلى/ 14.
فإنه يستدل بها على زكاة الفطر، روى البيهقى بسنده: أنها فى زكاة رمضان، ثم أسند مرفوعا نحوه، وقال بعضهم: لا أدرى ما وجه هذا التأويل؟ لأن السورة مكية، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة.
(وأجاب البغوى فى تفسيره: بأنه يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم كما قال لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ سورة البلد/ 1، 2. فالسورة مكية وظهر أثر الحل يوم فتح مكة حتى قال عليه السّلام:
«أحلت لى ساعة من نهار» (?).
وكذلك نزل بمكة: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ القمر/ 45. قال عمر بن الخطاب: «كنت لا أدرى أى الجمع يهزم، فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
سيهزم الجمع ويولون الدبر» أ. هـ. كلام الزركشى رحمه الله تعالى (?).
وما ساقه الزركشى هنا- فيما عدا الآية الأولى التى قالوا إنها فى شأن زكاة الفطر- يمكن حمله على أنه من باب الإخبار بالمغيبات التى وقعت كما أخبر القرآن عنها تماما، وذلك من أوجه إعجاز القرآن الكريم.