«فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة على المؤمنين لفهم أن ذلتهم لضعف، فلما قال:
أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ علم أنها تواضع منهم لهم. ومن أمثلته فى القرآن الكريم، ولم يذكرها الخطيب قوله تعالى:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (?).
وهذا عكس الأول. لأن فيه استدراكا من ضعف أما هذا ففيه استدراك من قسوة، لأنه لو لم يذكر رُحَماءُ بَيْنَهُمْ لوقع فى بعض النفوس وهم أنهم قساة فى التعامل. ولكن لما قال: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ علم أن مبعث شدتهم هو عدم موالاتهم لأهل الكفر وبخاصة أن الكفار فى عصر نزول القرآن كانوا شديدى القسوة على المؤمنين، فعاملهم المؤمنون بالمثل.
ويجوز أن يكون التكميل هو الأول، فيكون من الاستدراك من الضعف، يعنى أنهم يستعملون الشدة فى مواضع الشدة، ويستعملون اللين فى مواضع اللين.
وقال ابن أبى الأصبع: «ومن أحسن ما جاء فى هذا الباب وأنصعه قوله تعالى:
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (?).
قال: «فإن المعنى قد تم عند قوله:
ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ لكن يبقى على ظاهر الآية إشكال من جهة أن الضعيف إذا سمع قوله بعد حكاية التكذيب لنبيه أمر نبيه أن يقول: إن ربهم ذو رحمة واسعة، مقتصرا على ذلك، يتوهم أن رحمته لسعتها ربما شملت من كذب نبيه، فاحترس من هذا الاحتمال، بما جاء به مكملا للمدح بالانتقام من الأعداء، كما يمدح- يعنى الله- بالرحمة للأولياء فقال:
وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فجعل الوعيد للمكذبين، بعد تقديم الوعد للمصدقين، فإن البلاغة توجب أن تكون الرحمة الموصوفة بالسعة للمحسنين ليقابل ذلك قوله:
وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (?)
وهذا توجيه سديد، وفهم ثاقب لدقائق كتاب الله العزيز، وروائع أسراره.
وبمثل هذا التوجيه السديد وجّه المؤلف قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (?) قال:
فإن التكميل أتى فى هذه الآية بعد صحة التقسيم لأن الكذب .. على قسمين:
قسم مطلق، وقسم مقيد، فالمطلق قوله