من قوله: «لو كنت عنده لغسلت عن قدميه» وإنما يغسل عن قدميه، من أجل: «يوحى إلى» إذ إن من اصطفاه الله لرسالته جدير بأن يكون أهلا لذلك.
بيد أن هذه النهاية التى انتهى إليها هرقل، إنما هى الشعار الدائم الذى لا ينتهى بانتقال الرسول إلى الملأ الأعلى، فالرسول حى بيننا الآن برسالته وهديه وتعاليمه والغسل عن قدميه الآن أو بتعبير آخر احترامه: إنما هو باتباع هديه، والتزام رسالته، وتقديره تقديرا يتناسب مع اصطفاء الله له صلى الله عليه وسلم.
ولقد ركز هرقل نوعا ما على الصدق والإخلاص، والواقع أن صورة الصدق والإخلاص كان يراهما كل من عرف الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تعمه عصبية، أو حسد أو هوى.
على أن صورة الصدق والإخلاص: كانت سمة من السمات التى اتصف بها الرسول قبل بعثته، وبعد بعثته- صلوات الله وسلامه عليه-، لقد لازمته طيلة حياته، لقد كان مجرد الخبر يلقيه- صلوات الله وسلامه عليه-، يأخذه أعدى أعدائه على أنه واقع لا محالة. فهذا أمية بن خلف- عدو لدود- يتلاحى مع سعد بن معاذ رضى الله عنه، يريد أن يمنعه من الطواف بالكعبة، فيقول له سعد بن معاذ فى حدة المناقشة: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه قاتلك» ويضطرب قلب أمية بن خلف ويسأل فى لهفة وضعف وتخاذل: أو قال ذلك حقّا؟ فلما أكد له سعد بن معاذ الخبر أسقط فى يده وقال: لئن كان قال ذلك، لقد صدق، وقتل أمية بن خلف يوم بدر.
على أن هذه الصورة تتمثل فى وضوح بيّن حينما أعلن رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- إلى قريش نبوته، فقال لهم:
«أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا وراء هذا الوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم تصدقونى؟» .
لقد كانت إجابتهم عن هذا السؤال تعبر عن الحقيقة التى لمسوها فيه لقد قالوا:
«نعم أنت عندنا غير متهم، وما جربنا عليك كذبا قط» .
وصورة أخرى، صورة لم يرتب لها ترتيب مروى ولم يؤد إليها منطق محكم، صورة لم تكن نتيجة عشرة طويلة، ورفقة قريبة، وإنما جاءت على البديهة، وأوحت بها الملاحظة السليمة.
إنها الصورة التى كونتها عنه- صلوات الله وسلامه عليه- أم معبد الخزاعية، وهى صورة لا تخص الجانب المعنوى منه وإنما تتصل على الأخص بالجانب الظاهر، وأردنا أن نثبتها هنا لنثبت بها (هيئة) وظاهرا بعد أن أثبتنا زوايا من المعنويات، وجوانب من التقدير والإجلال، إن الصورة التى نثبتها الآن مجرد وصف، إنها تعبير عن ملاحظة.
هاجر رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- من مكة إلى المدينة يرافقه أبو بكر رضى الله عنه، وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر ودليلهم عبد الله بن أريقط.
مروا بخيمة أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة قوية الأخلاق عفيفة تقابل الرجال، فتتحدث إليهم وتستضيفهم، وسألها الركب عن تمر أو لحم يشترونه فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، فقد كانت سنة من السنين العجاف، فقالت لهم: