حَتَّى كَانَتْ قَبَائِلُ الْعَرَبِ تَفْهَمُهُ.
وَأَيْضًا، فَمُقْتَضَاهُ مِنَ التَّكْلِيفِ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا النَّمَطِ، لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَيْسَ كَالْقَوِيِّ، وَلَا الصَّغِيرَ كَالْكَبِيرِ، وَلَا الْأُنْثَى كَالذَّكَرِ، بَلْ كُلٌّ لَهُ حَدٌّ ينتهي إليه في العبارة1 الْجَارِيَةِ، فَأَخَذُوا بِمَا يَشْتَرِكُ الْجُمْهُورُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَأَلْزَمُوا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِهِمْ: بِالْحُجَّةِ الْقَائِمَةِ، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَلْزَمَهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَلَكَلَّفَهُمْ بِغَيْرِ قِيَامِ حُجَّةٍ، وَلَا إِتْيَانٍ بِبُرْهَانٍ، وَلَا وَعْظٍ وَلَا تَذْكِيرٍ، وَلَطَوَّقَهُمْ فَهْمَ مَا لَا يُفْهَمُ وَعِلْمَ مَا لَمْ يُعْلَمْ، فَلَا حِجْرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ حُجَّةَ الْمُلْكِ قَائِمَةٌ: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الْأَنْعَامِ: 149] .
لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَاطَبَهُمْ مِنْ حَيْثُ عَهِدُوا، وَكَلَّفَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَهُمُ الْقُدْرَةُ2 عَلَى مَا بِهِ كُلِّفُوا، وَغُذُّوا فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ بِمَا يَسْتَقِيمُ بِهِ مُنْآدُهُمْ3، وَيَقْوَى بِهِ ضَعِيفُهُمْ، وَتَنْتَهِضُ بِهِ عَزَائِمُهُمْ: مِنَ الْوَعْدِ تَارَةً، وَالْوَعِيدِ أُخْرَى، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ أُخْرَى، وَبَيَانِ مَجَارِي الْعَادَاتِ فِيمَنْ سَلَفَ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ، حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَنْفَرِدُوا بِهَذَا الأمر دون الخلق الماضيين، بَلْ هُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي مُقْتَضَاهُ، وَلَا يَكُونُونَ مُشْتَرِكِينَ إِلَّا فِيمَا لَهُمْ مُنَّةٌ4 عَلَى تَحَمُّلِهِ، وَزَادَهُمْ تَخْفِيفًا دُونَ الْأَوَّلِينَ، وَأَجْرَى فَوْقَهُمْ فَضْلًا من الله ونعمة، والله عليم حكيم.