لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَا يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ كَمَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَأْذُونًا فِيهَا، يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَأْمُورًا بِهَا، وَإِنْ سَلِمَ ذَلِكَ، فَالْإِذْنُ مُضَادٌّ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعًا، فَإِنَّ التَّخْيِيرَ مُنَافٍ لِعَدَمِ التَّخْيِيرِ، وَهُمَا وَارِدَانِ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِدِ، فَوُرُودُ الْخِطَابِ بِهِمَا مَعًا خِطَابٌ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ إِيقَاعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخَاطَبِ بِهِ1، وَهُوَ مَا أَرَدْنَا بَيَانَهُ، وَلَيْسَ هَذَا كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، لِإِمْكَانِ الِانْفِكَاكِ بِأَنْ يُصَلَّى فِي غَيْرِ الدَّارِ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ2 مُشِيرٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفَلَاسِفَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَنَّ الشَّرَّ لَيْسَ بِمَقْصُودِ الْفِعْلِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْخَيْرُ، فَإِذَا3 خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقًا مُمْتَزِجًا خَيْرُهُ بَشَّرِّهِ، فَالْخَيْرُ هُوَ الَّذِي خُلِقَ الْخَلْقُ لِأَجْلِهِ، وَلَمْ يُخْلَقْ لِأَجْلِ الشَّرِّ، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا بِهِ، كَالطَّبِيبِ عِنْدَهُمْ إِذَا سَقَى المريضَ
الدَّوَاءَ الْمُرَّ الْبَشِعَ الْمَكْرُوهَ، فَلَمْ يَسْقِهِ إِيَّاهُ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَرَارَةِ وَالْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ، بَلْ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ الشِّفَاءِ وَالرَّاحَةِ، وَكَذَلِكَ الْإِيلَامُ بِالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَقَطْعِ العضو وَالرَّاحَةِ، وَكَذَلِكَ الْإِيلَامُ بِالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَقَطْعِ الْعُضْوِ
الْمُتَآكِلِ، إِنَّمَا قَصْدُهُ بِذَلِكَ جَلْبُ الرَّاحَةِ وَدَفْعُ الْمَضَارِّ، فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ جَمِيعُ مَا فِي الْوُجُودِ مِنَ الْمَفَاسِدِ الْمُسَبَّبَةِ عَنْ أَسْبَابِهَا، فَمَا تَقَدَّمَ شَبِيهٌ بِهَذَا مِنْ حَيْثُ قُلْتُ: إِنَّ الشَّارِعَ -مَعَ قَصْدِهِ التَّشْرِيعَ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ- لَا يَقْصِدُ وَجْهَ الْمَفْسَدَةِ، مَعَ أَنَّهَا لَازِمَةٌ لِلْمَصْلَحَةِ4.
وَهُوَ أَيْضًا مُشِيرٌ إِلَى مَذَاهِبِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الشُّرُورَ وَالْمَفَاسِدَ غَيْرُ مَقْصُودَةِ الْوُقُوعِ، وَأَنَّ وُقُوعَهَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى خِلَافِ الْإِرَادَةِ، تَعَالَى اللَّهُ عن ذلك