وَالثَّانِي:
أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ نَصُّوا عَلَى رُخَصٍ مَأْمُورٍ بِهَا؛ فَالْمُضْطَرُّ إِذَا خَافَ الْهَلَاكَ وَجَبَ عَلَيْهِ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْغَاذِيَةِ1 وَنَصُّوا عَلَى طَلَبِ الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ، وَأَنَّهُ سُنَّةٌ، وَقِيلَ فِي قَصْرِ الْمُسَافِرِ: إِنَّهُ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ، وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ 2 " 3، وَقَالَ رَبُّنَا تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الْبَقَرَةِ: 185] إِلَى كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ؛ فَلَمْ يَصِحَّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ حُكْمَ الرُّخَصِ الْإِبَاحَةُ دُونَ التَّفْصِيلِ.
فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: إِنَّهُ لَا يُشَكُّ أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ وَالْإِثْمِ فِي وَضْعِ اللِّسَانِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ الْقَرَائِنِ يَقْتَضِي الْإِذْنَ فِي التَّنَاوُلِ وَالِاسْتِعْمَالِ، فَإِذَا خُلِّينَا وَاللَّفْظَ كَانَ رَاجِعًا إِلَى مَعْنَى الْإِذْنِ فِي الْفِعْلِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَإِنْ كَانَ لِرَفْعِ الْجُنَاحِ وَالْحَرَجِ سَبَبٌ خَاصٌّ؛ فَلَنَا أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَى مُقْتَضَى اللَّفْظِ لَا عَلَى خُصُوصِ السَّبَبِ؛ فَقَدْ يُتَوَهَّمُ فِيمَا هُوَ مُبَاحٌ شَرْعًا أَنَّ فِيهِ إِثْمًا، بِنَاءً عَلَى اسْتِقْرَارِ عَادَةٍ تَقَدَّمَتْ، أَوْ رَأْيٍ عَرَضَ، كَمَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمُ الْإِثْمَ فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ بِالثِّيَابِ، وَفِي بَعْضِ الْمَأْكُولَاتِ، حَتَّى نَزَلَ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الْأَعْرَافِ: 32] ، وَكَذَلِكَ فِي الأكل من بيوت الآباء