مِنْ تَزْهِيدِ مَنْ زَهَّدَ فِيهَا وَلَيْسَ بِتَارِكٍ لَهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ وَإِنْ كَانَتْ جَائِزَةٌ، وَفِي مُخَالَفَةِ الْقَوْلِ الْفِعْلَ هُنَا مَا يَمْنَعُ مِنْ بُلُوغِ مَرْتَبَةِ مِنْ طَابَقَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ.
فَإِذَا اخْتَلَفَ مَرَاتِبُ الْمُفْتِينَ فِي هَذِهِ الْمُطَابَقَةِ؛ فَالرَّاجِحُ لِلْمُقَلِّدِ اتِّبَاعُ مَنْ غَلَبَتْ مُطَابَقَةُ قَوْلِهِ بِفِعْلِهِ.
وَالْمُطَابَقَةُ أَوْ عَدَمِهَا يُنْظَرُ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، فَإِذَا طَابَقَ فِيهِمَا؛ [فَهُوَ الْكَمَالُ، فَإِنَّ تَفَاوَتَ الْأَمْرُ فِيهِمَا] 1 -أَعْنِي فِيمَا عَدَا شُرُوطِ الْعَدَالَةِ- فَالْأَرْجَحُ الْمُطَابَقَةُ فِي النَّوَاهِي، فإذا وجد مجتهدان أحدهما مثابر على أن لا يَرْتَكِبَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، لَكِنَّهُ فِي الْأَوَامِرِ لَيْسَ كذلك، والآخر مثابر على أن لا يُخَالِفَ2 مَأْمُورًا بِهِ، لَكِنَّهُ فِي النَّوَاهِي عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ فِي الِاتِّبَاعِ مِنَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ فِيمَا عَدَا شُرُوطِ الْعَدَالَةِ إِنَّمَا مُطَابَقَتُهَا مِنَ الْمُكَمِّلَاتِ وَمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي آكَدُ وَأَبْلَغُ فِي الْقَصْدِ الشَّرْعِيِّ مَنْ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَهُوَ مَعْنًى يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَنَاهِيَ تَمْتَثِلُ3 بِفِعْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْكَفُّ؛ فَلِلْإِنْسَانِ قُدْرَةٌ عَلَيْهَا فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ، وَأَمَّا الْأَوَامِرُ؛ فَلَا قُدْرَةَ لِلْبَشَرِ عَلَى فِعْلِ جَمِيعِهَا، وَإِنَّمَا تَتَوَارَدُ عَلَى الْمُكَلَّفِ عَلَى الْبَدَلِ بِحَسْبِ مَا اقْتَضَاهُ التَّرْجِيحُ؛ فَتَرْكُ بَعْضِ الْأَوَامِرِ لَيْسَ بِمُخَالَفَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بِخِلَافِ [فِعْلِ] بَعْضِ النَّوَاهِي، فَإِنَّهُ مُخَالَفَةٌ