فَأَجَابَ: إِنْ أَرَدْتَ بِمَا أَشَرْتَ إِلَيْهِ إِبَاحَةَ أَخْذِ طَعَامٍ عَنْ ثَمَنِ طَعَامٍ هُوَ جِنْسٌ مُخَالِفٌ لِمَا اقْتَضَى، فَهَذَا مَمْنُوعٌ1 فِي الْمَذْهَبِ، وَلَا رُخْصَةَ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ كَمَا تَوَهَّمْتَ.
قَالَ: وَلَسْتُ مِمَّنْ يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى غَيْرِ الْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ الْوَرَعَ قَلَّ، بَلْ كَادَ يُعْدَمُ، وَالتَّحَفُّظُ عَلَى الدِّيَانَاتِ كَذَلِكَ، وَكَثُرَتِ الشَّهَوَاتُ، وَكَثُرَ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ وَيَتَجَاسَرُ عَلَى الْفَتْوَى فِيهِ، فَلَوْ فُتِحَ لَهُمْ بَابٌ فِي مُخَالَفَةِ الْمَذْهَبِ؛ لَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ، وَهَتَكُوا حِجَابَ هَيْبَةِ الْمَذْهَبِ2، وَهَذَا مِنَ الْمُفْسِدَاتِ3 الَّتِي لَا خَفَاءَ بِهَا، وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَخْذِ الثَّمَنِ إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ طَعَامًا؛ فَلْيَأْخُذْهُ مِنْهُمْ مَنْ يَبِيعُهُ عَلَى مِلْكِ مُنْفِذِهِ4 إِلَى الْحَاضِرَةِ، وَيَقْبِضُ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ بِإِشْهَادٍ مِنْ غَيْرِ تَحَيُّلٍ عَلَى إِظْهَارِ مَا يَجُوزُ.
فَانْظُرْ كَيْفَ لَمْ يَسْتَجِزْ -وَهُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَى إِمَامَتِهِ- الْفَتْوَى بِغَيْرِ مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَلَا بِغَيْرِ مَا يُعْرَفُ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةٍ مَصْلَحِيَّةٍ ضَرُورِيَّةٍ؛ إِذْ قَلَّ الْوَرَعُ وَالدِّيَانَةُ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَنْتَصِبُ لُبْثَ الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى كَمَا تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ؟ فَلَوْ فُتِحَ5 لَهُمْ هَذَا الْبَابُ لَانْحَلَّتْ عُرَى الْمَذْهَبِ، بَلْ جَمِيعُ الْمَذَاهِبِ6؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ لِلشَّيْءِ وَجَبَ لِمِثْلِهِ، وَظَهَرَ أَنَّ تِلْكَ الضَّرُورَةَ الَّتِي ادعيت في السؤال ليست بضرورة.