إِنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي مُطْلَقَ التَّخْيِيرِ، ثُمَّ رَأَوْا أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالِاجْتِهَادِ، فَالْقَتْلُ فِي مَوْضِعٍ وَالصَّلْبُ فِي مَوْضِعٍ، وَالْقَطْعُ فِي مَوْضِعٍ وَالنَّفْيُ فِي مَوْضِعٍ، وَكَذَلِكَ التَّخْيِيرُ فِي الْأُسَارَى مِنَ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ.
وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ الْأَمْرُ بِالنِّكَاحِ وَعَدُّوهُ مِنَ السُّنَنِ، وَلَكِنْ قَسَّمُوهُ إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، وَنَظَرُوا فِي ذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ مُكَلَّفٍ وَإِنْ كَانَ نَظَرًا نَوْعِيًّا؛ فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالنَّظَرِ الشَّخْصِيِّ، فَالْجَمِيعُ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْجَمِيعِ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ قَدْ يستبعد ببادىء الرَّأْيِ وَبِالنَّظَرِ الْأَوَّلِ؛ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَغْزَاهُ وَمَوْرِدُهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَمَا تَقَدَّمَ وَأَمْثَالُهُ كافٍ مُفِيدٌ لِلْقَطْعِ بِصِحَّةِ هَذَا الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ قلَّما نَبَّهُوا عَلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَصِحُّ دَعْوَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ هَذَا1 الِاجْتِهَادِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ2 وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الِاجْتِهَادِ، مَعَ أَنَّهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ؟ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ فَغَيْرُهُ كَذَلِكَ، إِذْ لَا يَخْلُو أَنْ يُرَادَ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ارْتِفَاعُهُ [بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ صَحَّ إِيقَاعُ بَعْضِ جُزْئِيَّاتِهِ، أَوْ يراد
أنه لا يصح ارتفاعه] وَلَا بِالْجُزْئِيَّةِ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَسَائِرُ أَنْوَاعِ الِاجْتِهَادِ كَذَلِكَ.
أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ الْوَقَائِعَ فِي الْوُجُودِ لَا تَنْحَصِرُ؛ فَلَا يَصِحُّ دُخُولُهَا تَحْتَ الْأَدِلَّةِ الْمُنْحَصِرَةِ، وَلِذَلِكَ احْتِيجَ إِلَى فَتْحِ بَابِ الاجتهاد من القياس وغيره، فلا