فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا يُعْتَرَضُ هَذَا بِأَنْ يُقَالَ مَثَلًا: إِنَّ حَقَّ الْعَبْدِ ثَابِتٌ لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَكَمَالِ جِسْمِهِ وَعَقْلِهِ وَبَقَاءِ مَالِهِ فِي يَدِهِ، فَإِذَا أُسْقِطَ ذَلِكَ بِأَنْ سُلِّطَ يَدُ الْغَيْرِ عَلَيْهِ؛ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِجَوَازِ ذَلِكَ لَهُ أَوْ لَا، فَإِنْ قُلْتَ "لَا" وَهُوَ الْفِقْهُ؛ كَانَ نَقْضًا لِمَا أَصَّلْتَ لِأَنَّهُ حَقُّهُ، فَإِذَا أَسْقَطَهُ اقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي إِسْقَاطِهِ، وَالْفِقْهُ يَقْتَضِي أَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ قُلْتَ: "نَعَمْ" خَالَفْتَ الشَّرْعَ؛ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، وَلَا أَنْ يَفُوتَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ، وَلَا مَالًا مِنْ مَالِهِ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النِّسَاءِ: 29] .
ثُمَّ توعد عليه، وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 188] .
وَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فِيمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَحَرَّمَ شُرْبَ الْخَمْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ مَصْلَحَةِ الْعَقْلِ بُرْهَةً؛ فَمَا ظَنُّكَ بِتَفْوِيتِهِ جُمْلَةً؟ وَحَجَرَ عَلَى مُبَذِّرِ الْمَالِ، وَنَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ1؛ فَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا هُوَ حَقٌّ لِلْعَبْدِ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ لَهُ فِيهِ الْخِيَرَةُ.
لِأَنَّا نُجِيبُ بِأَنَّ إِحْيَاءَ النُّفُوسِ وَكَمَالَ الْعُقُولِ وَالْأَجْسَامِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادِ، لَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا أَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عَبْدٍ حَيَاتَهُ وَجِسْمَهُ وَعَقْلَهُ الَّذِي2 بِهِ يَحْصُلُ [لَهُ] 3 مَا طُلِبَ بِهِ مِنَ الْقِيَامِ بِمَا كُلِّفَ بِهِ؛ فَلَا يَصِحُّ لِلْعَبْدِ إِسْقَاطُهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُبْتَلَى الْمُكَلَّفُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ كَسْبِهِ ولا تسببه، وفات بسبب