باعه في معرفة علوم التاريخ، وجهل مقالات الناس يهجم بالإنكار على ما لا يعرفه ولو أنصف لعلم أن العجز من قبله وليس ما تضمنه هذا الكتاب من العلم الذي يقطع عليه، ولا يحتاج في الشريعة إليه وحسب العالم أن يعلم ما قيل في ذلك ويقف عليه.
وأما الرواية عمن أدركت من الجلة والمشايخ فإني في الغالب والأكثر أصرح باسم من حدّثني إلا أن لا يحتاج إلى تعيينه، أو أكون قد أنسيته وقلّ ما يتفق مثل ذلك.
وأمّا ما شاهدته فإني أرجو أن أكون ولله الحمد غير متهم ولا ظنين، وقد قلت في هذه الرءوس الثمانية ما فيه قنع وكفاية، ولم يبق إلا أن أشرع فيما قصدت، وعزمي أن أجعل الكلام في كل خط من الأخطاط وفي كل أثر من الآثار على حدة ليكون العلم بما يشتمل عليه من الأخبار أجمع وأكثر فائدة وأسهل تناولا والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وفوق كلّ ذي علم عليم.
(فصل) : أوّل من رتب خطط مصر وآثارها، وذكر أسبابها في ديوان جمعه: أبو عمر محمد بن يوسف الكنديّ «1» ، ثم كتب بعده القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعيّ «2» كتابه المنعوت بالمختار في ذكر الخطط والآثار، ومات في سنة سبع وخمسين وأربعمائة قبل سني الشدّة، فدثر أكثر ما ذكر اه.
ولم يبق إلا يلمع وموضع بلقع بما حل بمصر من سني الشدّة المستنصرية من سنة سبع وخمسين إلى سنة أربع وستين وأربعمائة من الغلاء والوباء، فمات أهلها وخربت ديارها وتغيرت أحوالها، واستولى الخراب على عمل فوق من الطرفين بجانبي الفسطاط الغربيّ والشرقيّ. فأما الغربيّ فمن قنطرة بني وائل حيث الوراقات الآن قريبا من باب القنطرة خارج مدينة مصر إلى الشرف المعروف الآن بالرصد، وأنت مار إلى القرافة الكبرى. وأما الشرقيّ فمن طرف بركة الحبش التي تلي القرافة إلى نحو جامع أحمد بن طولون، ثم دخل أمير الجيوش بدر الجمالي مصر في سنة ست وستين وأربعمائة، وهذه المواضع خاوية على عروشها خالية من سكانها وأنيسها قد أبادهم الوباء والتباب، وشتتهم الموت والخراب ولم يبق بمصر إلا بقايا من الناس كأنهم أموات قد اصفرّت وجوههم وتغيرت سحنهم من غلاء الأسعار، وكثرة الخوف من العسكرية، وفساد طوائف العبيد والملحية، ولم يجد من يزرع الأراضي. هذا والطرقات قد انقطعت بحرا وبرّا إلا بخفارة وكلفة كثيرة، وصارت القاهرة