والصلاح خليل بن أبيك الصفدي، وصفه في تاريخه المسمى ب " الوافي بالوفيات " بمفتي الأمة، شيخ الإسلام، الحافظ الفقيه الزاهد، أحد الأعلام.
ولم يأت في ترجمته بفائدة زائدة.
ووليّ الله تعالى: العفيف اليافعي. قال في " تاريخه ": شيخ الإسلام، مفتي الأنام، المحدث المتقن، المحقق المدقق، النجيب الحبر، المفيد القريب والبعيد، محرّر المذهب وضابطه ومرتّبه، أحد العُبّاد، الورعين الزُّهاد، العالم العامل، المحقق الفاضل، الولي الكبير، السيد الشهير، ذو المحاسن العديدة، والسير الحميدة، والتصانيف المفيدة، الذي فاق جميع الأقران، وسارت بمحاسنه الركبان، واشتهرت فضائله في سائر البلدان، وشوهدت منه الكرامات، وارتقى في أعلى المقامات، ناصر السنة، ومعتمد الفتاوى. ذو الورع الذي لم يبلغنا مثله عن أحد في زمانه ولا قبله.
ولقد بلغني أنه كان يجري دمعه في الليل ويقول:
لئن كان هذا الدمع يجري صبابةً ... على غير ليلى فهو دمع مضيَّع
وقد رأيت له منامات تدل على عظم شأنه، ودوام ذكره لله تعالى، وحضوره، وعمارة أوقاته، وشدة هيبته، وتعظيم وعده ووعيده، وحياته بعد موته، وكلمني ودعا لي، وغير ذلك مما لا تضبطه العبارة، مما تميز به العلماء والعُبَّاد.
وقال في " الإرشاد ": رأيته في النوم وعليه هيئة عظيمة تزلزل الجبال، كأنما القيامة قامت، وهو يذكر الله ويمجده، ويعظّم وعده ووعيده، ثم دعا لي وقال: ثبّتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وقال التاج أبو نصر السبكي " فيما أنبني العز أبو محمد عبد الرحيم بن الفرات، الحنفي " عنه في " طبقات الشافعية الكبرى " له: الشيخ الإمام، العلامة محيي الدين أبو زكريا، شيخ الإسلام، أستاذ المتأخرين، وحجة الله على اللاحقين، والداعي إلى سبيل السالفين. كان يحيى رحمه الله سيداً وحصوراً، وليثاً على النفس هصوراً، وزاهداً لم يبال بخراب الدنيا، إذ صيّر دينه ربعاً معموراً.
له الزهد والقناعة، ومتابعة السالفين من أهل السنة والجماعة، والمصابرة على أنواع الخير، لا يصرف ساعة في غير طاعة، هذا مع التفنن في أصناف العلوم، فقهاً ومتون أحاديث، وأسماء رجال، ولغة وتصوفاً، وغير ذلك. وأنا إذا أردت أن أُجمل تفاصيل فضله، وأدل الخلق على مبلغ مقداره بمختصر القول وفصله، لم أزد على بيتين أنشدنيهما من لفظة الشيخ الإمام " يعني والده " وكان من حديثهما أنه " أعني الوالد " رحمهما الله، لما سكن في قاعة دار الحديث الأشرفية في سنة اثنين وأربعين وسبعمائة، كان يخرج في الليل إلى إيوانها، ليتهجد تجاه الأثر الشريف، ويمرّغ خده على البساط، وهذا البساط من زمن الأشرف الواقف، وعليه اسمه، وكان النووي يجلس عليه وقت الدرس، فأنشدني الوالد لنفسه:
وفي دار الحديث لطيفُ معنى ... على بُسْط بها أصبو وآوي
عسى أن أمَسَّ بحُرِّ وجهي ... مكاناً مسَّه قدمُ النواوي
وبإقرار النووي وابن الصلاح وجلوسهما على هذا البساط، مع علمهما وورعهما، وكذا مَنْ بينهما، ومَنْ بعد النووي إلى السبكي فمَنْ بعده: يُدْفَع به مَنْ مَنع افتراش البسط المنقوش عليها شيئاً من حروف الهجاء ويتأيد به من صنّف في معارضته.
وشار التاج أيضاً في " التوشيح " إلى هذا الصنيع، بل حكى عن والده أيضاً أنه رافق في مسيره وهو راكب بغلته، شيخاً ماشياً، فتحادثا، فكان في كلام ذلك الشيخ أنه رأى النووي، قال: ففي الحال نزل الوالد عن بغلته وقبّل يد ذلك الشيخ، وهو عامي جلف، وسأله الدعاء، ثم دعاه حتى أردفه معه، وقال: لا أركب وعين رأت وجه النووي تمشي بين يدي أبداً، قال: " وما زال يعني الوالد رحمه الله " كثير الأدب معه " يعني النووي " والمحبة والاعتقاد فيه، انتهى كلامه.
كلام التقي في " تكملة شرح المهذّب " كما أسلفته، يشهد لذلك.