قلت: فإن قيل: كيف هذا مع ما نُقل " كما روينا " في " مناقب الشافعي " للبيهقي من طريق الربيع بن سليمان سمعت الشافعيُّ رحمه الله يقول: العلم علمان، علم فقه للأديان، وعلم طب للأبدان، ونحوه عن ابن عبد الحكم عن الشافعي، وزاد: وما سوى ذلك فبُلْغة مجلس. ورواه محمد بن يحيى بن حسان عن الشافعي قال: وما سوى ذلك من الشعر ونحوه فهو عناء وتعب؟ فالجواب: إن الذي مدحه الشافعي رحمه الله هو الطب النبوي، أو المجرد عن أصول الفلاسفة التي صرح صاحب " القانون " في أوله بابتناء الطب المورّد في كتابه عليها، وأن الطبيب يتعلم ما يُبنى عليه من العلم الطبيعي، ولذلك اعترى الشيخ رحمه الله بمجرد عزمه على الاشتغال في الكتاب المذكور ما أشار إليه، لما رزقه الله من نور البصيرة، وأبداه له بصلاح السريرة، خصوصاً وإن عنده من الطب المحمود ما يفوق الوصف. على أن أبا بكر بن طاهر سئل عن معنى قول الشافعي، فقال: عند العوامّ أن علم الأديان هو ظاهر الفقه، وعلم الأبدان هو ظاهر الطب، وعند الحكماء أن علم الأديان هو علم مشاهدة القلوب بالمعاملات بصنع الله وتدبيره، وهو الفقه النافع، وعلم الأبدان هو ظاهر أوامر الله تعالى ذكره، ونواهيه في الحلال والحرام، وهو حجة الله على خلقه، وهو الطب النافع، فعلم القلوب هو عين الإسلام وحقائقه، وعلم الأبدان هو آداب الإسلام وشرائعه، وقد قال حرملة بن يحيى: كان الشافعي رحمه الله يتلهف على ما ضيّع المسلمون من الطب، ويقول: ضيعوا ثلث العلم، ووكلوه إلى اليهود والنصارى، انتهى الإيراد وجوابه.
وضُرب به المثل في إكبابه على طلب العلم ليلاً ونهاراً، وهَجْرِه النوم إلا عن غلبة، وضبط أوقاته بلزم الدرس أو الكتابة أو المطالعة أو التردد إلى الشيوخ، قاله الذهبي في " سير النبلاء "، انتهى.
" 1 - في الفقه " وأول شيوخه في الفقه " كما قال رحمه الله " الإمام المتفق على علمه وزهده، وورعه وكثرة عبادته، وعِظم فضله وتميّزه على أشكاله: أبو إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي، ثم المقدسي.
قلت: كان معظم انتفاعه عليه.
ثم الأمام العارف الزاهد، العابد الورع، المتقن، مفتي دمشق في وقته: أبو محمد عبد الرحمن بن نوح بن محمد بن إبراهيم بن موسى المقدسي، ثم الدمشقي.
ثم الإمام المتقن المفتي: أبو حفص عمر بن أسعد بن أبي غالب الرَّبعي، الأربلي. قال ابن العطار: وقد أدركته وحضرت بين يديه، وسمعت عليه جزاء أبي الجهم.
ثم الإمام العالم المَجْمَع على إمامته وجلالته، وتقديمه في علم المذهب على أهل عصره بهذه النواحي: أبو الحسن سلاّر بن الحسن، الأربلي، ثم الحلبي، ثم الدمشقي. قال ابن العطار: وقد أدركته أيضاً وحضرت جنازته مه شيخنا.
أخذ الشيخ عنهم الفقه قراءة وتصحيحاً وسماعاً، وشرحاً وتعليقاً.
قلت: وقال القطب اليونيني: إن الشيخ أول ما قدم دمشق اجتمع بالشيخ جمال الدين عبد الكافي، أظنه ابن عبد الملك بن عبد الكافي، الرَّبعي الدمشقي، خطيب الجامع الأموي وإمامه، وعرّفه رحمه الله مقصده، فأخذه وتوجّه به إلى حلقة الشيخ تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع، الفزاري، عُرف بالفركاح رحمه الله، فقرأ عليه دروساً، وبقي يلازمه مدة، ولم يكن له موضع يأوي إليه، فسأل من التاج موضعاً يسكنه، ولم يكن بيد التاج إذ ذاك من المدارس سوى الصارمية، ولا بيوت لها، فدله على الكمال إسحاق، المغربي بالرَّواحية، فتوجه إليه ولازمه واشتغل عليه، وصار منه ما صار.
ونحوه قول التقي ابن قاضي شهبة: ولما قدم النووي من بلده أحضروه ليشتغل عليه " يعني الفزاري " فحمل همه، وبعث به إلى المدرسة الرّواحية ليحصل له بها بيت، ويرتفق بمعلومها. قال: ثم إنه كانت بينهما وحشة كعادة النظراء، قال: وكان النووي أنقل للمذهب، وأكثر محفوظاً منه، انتهى كلام التقي.
ولم يذكر " أي التقي " سبب الوحشة التي سبقه الذهبي إلى ذكرها في ترجمة التاج، من " المعجم المختصر "، حيث قال: كان بينه وبين النووي رحمهما الله وحشة كعادة النظراء، انتهى كلام الذهبي.