ألا ترى أن واحداً من الناس إذا كان يتلقى عن أحد علما مستفيد به في الناس ذكرا أو مالا أو جاها ثم ترك إلى أن ينسبه إليه، لا لغرض سوى الترفع أن يقال: أنه يأخذ عن قلان وينسبه إلى ضده ويخالفه وصار مع ذلك إلى سبه وشتمه وتكذيبه من غير ضرورة إليه، أو عذر يعرف له فيه، كان من أقل ما يعامله به إذا عرف ما يكون منه أن يقطع عنه مادته ويرفض في إرفاده عادته دون أن يتحمل لأجله المشاق والكلف في تحصيل حاجته ثم يعصمها عليه مع ما يعرفه من رفعة عنه، وإساءة القول فيه.
وإذا كان كذلك ثم لم ينقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم ببراءته من الجن وتكذيبه مسترقة السمع منهم، وذمهم إياهم وتسميتهم بأقبح الأسماء وهو الشياطين، علم ما كان يأتيه، ولقدرت الشياطين على الإضرار به، دل ذلك على أن العلم إنما كان يأتيه من الله تعالى على لسان الملك، دون إن كان شيطان يلقي إليه شيئا، أو يسترق لأجله سمعا، منها: أن نبينا صلى الله عليه وسلم ذكر للناس أن الكهانة قد أبطلت ورفعت، وأن الجن قد حيل بينهم وبين خبر السماء، فقال فيما أوحى الله إليه من قول الجن: {وإنا لمنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً، وشهباً وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع، فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً}
وذكر أن فيما أنزل عليه: {إنا زينا السماء الدينا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الى الملأ الأعلى، ويقذفون من كل جانب دحوراً ولهم عذاب واصب ألا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب لاقب}.
قوله عز وجل: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين}.
فلو كان ما يقوله إنما يسمعه من مسترقة السمع وكان الإستراق مجالة، والكهانة حالها الكذب وسائر الكهان، ويكون تابع كل كاهن لصاحبه، إنما يأتي محمد أميا فلان، وإنه واحد منكم، ولأخبر الكهان بذلك للناس ليتمكنوا من كهانتهم، كما كانوا متمكنين منها قبل.
فلما اسكتوا وبطل أمرهم وانقطع التواقع إليهم لعد العلم الذي كان يوجد فيما مضى