وقس حالك، وأنت في البيت الأول، ولم تنته إلى الثاني: بحالك، وقدانتهيت إليه، ووقفت ببصرك عليه، فإنك -لا ريب- مدرك مدى تمكن المعنى في نفسك.

كما تدرك الفرق بين أن يقول لك قائل: "الدنيا لا تدوم، ثم يسكت، وبين أن يذكر عقبيه قوله صلى الله عليه وسلم: من في الدنيا ضيف، وما في يده عارية، والضيف مرتحل، والعارية مؤداة، أو أن ينشد قول لبيد1:

وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولابد يوما أن ترد الودائع

كما ترى الفرق واضحا بين أن يقول قائل: أرى قوما لهم منظر، وليس لهم مخبر ويقطع الكلام، وبين أن يشفعه بنحو قول ابن لنكك:

في شجر السرو منهم مثل ... له رواء وما له ثمر2

وهل تراك لو بالغ لك أحد في وصف أيام بالقصر فقال: أيام كأقصر ما يتصور، أكنت تجد لك من الأنس في نفسك ما تجده في نحو قولهم: "أيام كأباهيم القطا"، أو في نحو قول الشاعر:

ظللنا عند باب أبي نعيم ... بيوم مثل سالفة الذباب3

فأنت في كل ذلك ترى المعنى في الحالة الثانية أسمى شرفا، وأشد وقعا، وأرسخ قدما منه في الحالة الأولى- ذلك لما يحصل للنفس من الإنس بإخراجها من خفي إلى جلي، ومن معقول إلى محسوس، ومما لم تألفه إلى ما ألفته، ومما لم تعلمه إلى ما هي به أعلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015