الرابع: تقرير حال المشبه، وتمكينها في نفس السامع بإبرازها في صورة هي فيها أوضح وأقوى، وإنما يكون ذلك في الأشياء المحسة كالذي تراه في تشبيه من لا يحصل من سعيه على طائل1 بمن يرقم على الماء أو الهواء، فقد أراك لخيبة المسعى، وبوار العمل صورة ملموسة لا يشك فيها شاكّ, وهل هناك من يشك في عبث من يرقم على الماء أو الهواء، وهو يرى بعينه عملا لا أثر له؟ ومثله قول الشاعر:
إن القلوب إذا تنافر ودها ... مثل الزجاجة كسرها لا يجبر
شبه الشاعر هيئة القلوب المتنافرة بهيئة الزجاجة المتصدعة بجامع هيئة الشيء التالف، تتعذر عودته إلى حالته الأولى. ولما كان تنافر القلوب، وتعذر عودتها إلى التواصل -كما كانت- من الأمور المعقولة التي لا تطمئن إليها النفس أيما اطمئنان, إذ قد يتوهم جواز عودتها إلى ما كانت عليه من الالتئام, لما كان الأمر كذلك أراد أن يبرز هذا المعنى في صورة ترى بالعين لتسكن إليه النفس، وتؤمن به إيمانا قويا، فشبهه بالزجاجة إذا تصدعت. ومثل هذا التشبيه تجد فيه من تقرير المعنى، وتمكينه في النفس ما لا تجده في غيره؛ ذلك أن الجزم بالأمور الحسية أتم منه بالأمور العقلية، وليس من شك في أن التئام الزجاجة بعد صدعها من الأمور المقطوع بتعذرها لتقررها في عالم الحس. ألا ترى لو وصفت يوما بالطول، فقلت: هو كأطول ما يتوهم، أو كأنه لا آخر له, أكنت تحس من الأنس والأريحية بمثل ما تجده في قول الشاعر:
ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطكاك المزاهر2