يقول: قد اتهمني العذال, فزعموا: أنني في كرب وشدة، مما ينتاب القلب من لوعة الهوى، وقد صدقوا فيما زعموا, غير أن ما أنا فيه من شدة لا مطمع لي في زواله. والشاهد فيه: فصل جملة "صدقوا" عن جملة "زعم العواذل"؛ لأن الثانية جواب عن سؤال ناشئ عن الأولى, ذلك أن مساق الكلام: في بث الشكوى من جماعة العذال، وهذا مما يحرك السامع لأنْ يسأل: أصدقوا في هذا الزعم أم كذبوا؟ فأجاب: صدقوا, والسؤال في هذين المثالين لا عن سبب عام ولا خاص إذ إن قول إبراهيم عليه السلام ليس سببًا لسلام الملائكة لا عامًّا ولا خاصًّا, كما أن صدق العواذل ليس سببًا لما زعموه على خلاف ما تقدم من أن "السهر الدائم" سبب في المرض، و"كون النفس نزاعة للشر، أمارة بالسوء" سبب في اتهامها.
وأما التوسط بين الكمالين مع قيام المانع من الموصل:
فيتحقق في جملتين: لا يوجد بينهما سبب من أسباب الفصل المتقدمة, ولكن لأولاهما حكم، لا يصح تشريك الثانية فيه لما يترتب على هذا التشريك من اختلال المعنى كما في قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} لم يعطف جملة: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على جملة "قالوا" الواقعة جوابًا للشرط لما يلزم على هذا المعطف من فساد المعنى, ذلك أن جملة {قَالُوا} مقيدة بالظرف الذي هو "إذا" والمعنى أنهم إنما يقولون ذلك وقت خلوهم بشياطينهم فحسب, فلو عطف جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على جملة {قَالُوا} لزم تشريك الثانية في حكم الأولى, وهو "التقيد بالظرف المذكور" فيكون المعنى حينئذ: إن الله يستهزئ بهم وقت خلوهم بشياطينهم فقط كالذي قبله وهو باطل إذ إن استهزاء الله بهم -بمعنى: مجازاته لهم بالخذلان- متحمل لا يتقيد بزمن.
كذلك لم يعطف جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على جملة {إِنَّا مَعَكُمْ} الواقعة مفعولا "لقالوا" لما يلزم على هذا العطف من فساد المعنى كذلك، ذلك أن قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} مفعول {قَالُوا} ، فهو إذًا من مقول المنافقين، فلو عطف قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} لزم تشريك الثانية في حكم الأولى، وهو كونها مفعولا "لقالوا"، فيلزم أن تكون جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} من مقول المنافقين أيضًا في حين أنها من مقول الله "سبحانه" فبطل إذا عطفها عليها لما يلزم عليه من هذا الفساد.
وإذ قد استوفينا القول في مواضع الفصل، فإليك الحديث مفصلا عن: