هذا إلى كون صاحبه مقصد الداني والقاصي، ومن هذا إلى أنه يقري الأضياف، ومنه إلى صفة الجود, كذلك ينتقل الذهن من هزال الفصيل إلى فقد أمه بنحرها1 ومنه إلى قوة الداعي إلى نحرها لكمال عناية العرب بالنوق، لا سيما المتليات2 منها، ومنه ينتقل الذهن إلى إعدادها للطبخ، ومنه إلى أنه مضياف كريم, ومن هذا النوع قول نصيب:
وكلبك آنس بالزائرين ... من الأم بابنتها الزائرة3
وبيان الكناية فيه: أن استئناس الكلب بالزائرين عنوان معرفته بهم؛ لأن الكلب إنما يأنس بمن يعرف، ومعرفته بهم دليل اتصال مشاهدته إياهم ليل نهار، وهذا دليل على أن دار الممدوح محط الرحال، وملتقى الآمال، وهذا يدل على ما أراده الشاعر، من وفور إحسان الممدوح، وسعة جوده. وقد بعدت المسافة بين أنس الكلب بالزائرين، وكرم الممدوح -على ما رأيت- وكون الكلب آنس من الأم مبالغة في استثنائه بالزوار, وهو يستتبع المبالغة في وصف الممدوح بالكرم, ونظير ذلك مع زيادة لطف قول الآخر:
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا ... يكلمه من حبه وهو أعجم4
فإن حب الكلب للضيف حتى إنه ليكاد يكلمه دليل شدة معرفته به، وهذا دليل كثرة مشاهداته إياه لكثرة تردده على الدار، وذلك دليل وفرة الجود في المزور, ومثله قوله الشاعر:
لا أمتع العوذ بالفصال ... ولا أبتاع إلا قريبة الأجل5