(ص) : (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ أَوَّلَ مَا يُنْظَرُ فِيهِ مِنْ عَمَلِ الْعَبْدِ الصَّلَاةُ فَإِنْ قُبِلَتْ مِنْهُ نُظِرَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عَمَلِهِ وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ لَمْ يُنْظَرْ فِي شَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــQفِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِلَفْظِهِ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَصَدَ صِفَةَ الزَّمَانِ بِإِظْهَارِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ حُدُودِهِ وَإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْقُرْآنُ وَأَنَّ ذَلِكَ عَامٌّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مِنْ بَيْنِ رَاغِبٍ فِيهِ وَمَحْمُودٍ عَلَيْهِ مِمَّنْ يَخْشَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُسْرِفِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُدْرِكْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ هَذَا الصِّنْفَ لَا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيُضَيِّعُونَ حُرُوفَهُ وَتِلَاوَتَهُ وَإِنْ أَظْهَرُوا الْتِزَامَ أَحْكَامِهِ وَحُدُودِهِ خَوْفًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَفُضَلَاءَ الصَّحَابَةِ يُضَيِّعُونَ حُرُوفَ الْقُرْآنِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ ضَيَّعُوا حُرُوفَ الْقُرْآنِ لَمْ يَصِلْ أَحَدٌ إلَى مَعْرِفَةِ حُدُودِهِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا يَتَضَمَّنُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ إلَّا مَنْ قَرَأَ الْحُرُوفَ وَعَرَفَ مَعَانِيَهَا.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي يَعْنِي أَنَّ الْمُتَصَدِّقِينَ كَثِيرٌ وَأَنَّ الْمُتَعَفِّفِينَ عَنْ الصَّدَقَةِ مِنْ الْفُقَرَاءِ كَثِيرٌ وَأَنَّ السَّائِلِينَ مِنْهُمْ قَلِيلٌ وَهَذَا وَصْفٌ لِأَغْنِيَاءِ ذَلِكَ الزَّمَانِ بِالصَّدَقَةِ وَالْفَضْلِ وَالْمُوَاسَاةِ وَوَصْفٌ لِفُقَرَائِهِمْ بِالصَّبْرِ وَغِنَى النَّفْسِ وَالْقَنَاعَةِ وَهَذِهِ صِفَةُ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلَاةَ وَيَقْصُرُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ يَعْنِي مُلَازَمَتَهُمْ لِلسُّنَّةِ وَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ يَفْعَلُ الْخُطْبَةَ وَالصَّلَاةَ لِلنَّاسِ أَهْلُ الْعِلْمِ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ يَبْدَؤُنَ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ الْأَعْمَالُ هَاهُنَا وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ وَاقِعًا فِي أَصْلِ كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مِنْ بِرٍّ وَفِسْقٍ إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَاهُنَا الْبِرُّ وَهَذَا يَقْتَضِي إطْلَاقَهُ فِي الشَّرْعِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا عُرِضَ لَهُمْ عَمَلُ بِرٍّ وَهَوًى بَدَءُوا بِعَمَلِ الْبِرِّ وَقَدَّمُوهُ عَلَى مَا يَهْوُونَهُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ يَعْنِي أَنَّ مَنْ يَفْقَهُهُ مِمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَلِيلٌ وَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلَا يَفْقَهُ فِيهِ وَهَذَا إخْبَارٌ مِنْهُ بِأَنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ لَا تَقِلُّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَ بِحِفْظِهِ وَأَمَّنَ مِنْ نِسْيَانِهِ فَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ كَثْرَةَ الْقُرَّاءِ عَيْبٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَإِنَّمَا عَابَهُ بِقِلَّةِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ وَأَنَّ قُرَّاءَهُ لَا يَفْقَهُونَ وَلَا يَعْلَمُونَ بِهِ وَإِنَّمَا غَايَتُهُمْ مِنْهُ تَحَفُّظُهُ وَهَذَا نَقْصٌ وَعَيْبٌ فِيهِمْ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ تُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ يَعْنِي أَنَّ التَّالِينَ لِكِتَابِ اللَّهِ كَثِيرٌ لَا يَعْلَمُونَ بِهِ وَلَا لِلنَّاسِ إمَامٌ وَلَا رُؤَسَاءُ يَحْمِلُونَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فَتُضَيَّعُ لِذَلِكَ حُدُودُهُ وَأَحْكَامُهُ وَبِهَذَا خَالَفَ الزَّمَانَ الْأَوَّلَ الْمَمْدُوحَ فَإِنَّ أَئِمَّتَهُ كَانُوا يَقْضُونَ بِالْقُرْآنِ وَيَحْمِلُونَ النَّاسَ عَلَيْهِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي يَعْنِي أَنَّ الْحِرْصَ وَالرَّغْبَةَ تُلْقَى فِي نُفُوسِ فُقَرَائِهِمْ وَالشُّحُّ وَالْمَنْعُ فِي نُفُوسِ أَغْنِيَائِهِمْ فَيَكْثُرُ السَّائِلُ وَيَقِلُّ الْمُعْطِي.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ يُطِيلُونَ الْخُطْبَةَ وَيَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ يَعْنِي أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ مَعْنَاهَا الْوَعْظُ وَالصَّلَاةُ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ وَعْظَهُمْ يَكْثُرُ وَعَمَلَهُمْ يَقِلُّ وَقَوْلُهُ يَبْدَؤُنَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ يَعْنِي أَنَّهُمْ إذَا عَرَضَ لَهُمْ هَوًى وَعَمَلُ بِرٍّ بَدَءُوا بِعَمَلِ الْهَوَى.
(ش) : قَوْلُهُ أَوَّلُ مَا يُنْظَرُ فِيهِ مِنْ عَمَلِ الْعَبْدِ الصَّلَاةُ يَقْتَضِي تَأْكِيدَهَا وَشِدَّةَ مُرَاعَاتِهَا لِأَنَّهُ يُبْدَأُ بِالنَّظَرِ فِيهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ لِمَزِيَّتِهَا عَلَيْهَا وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْمُتَقَدِّمُ أَنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ مَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ فَفِي هَذَا حَضٌّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ وَتَخْصِيصُهَا بِمَزِيَّةٍ